- ضياف البراق
ها أنذا أغرق في الحب مرة أخرى. الحب، هذا الوهم الضروري الجميل الذي ليس له أي معنى في حقيقته. أغرق في أوهام جديدة، في انتحاراتٍ خيالية لذيذة غير محدودة. هنا أيضًا غرق ذاك الفيلسوف العظيم الذي لم يكتب شيئًا، ودونكيشوت البطل المخدوع الذي فلَّتَتْهُ طائراتُه الورقية، وجلجامش الذي التهمتْهُ دودةُ الخلود اللامعة. كل الذين عبرتُ رصيفَ حياتهم غرقوا هنا. يا للحب. الكراهية الصادقة أقلُّ ضررًا من الحب الكاذب. أسوأ من الكراهية أن يكون الحب مزيَّفًا. الحب الذي لا يصنع الحياةَ ولو من أتفه الأشياء، الحب الذي لا يخترق المستحيل، الحب الذي لا يحمل بين جناحيه رسالة عظيمة، ليس حُبًّا أو قُلْ لن يدوم. عبر التاريخ كله لم يَهزمْ المستحيلَ سوى الحب وحده. أعرف إنسانًا طريحَ الفراش من سنين، لكنه لا يعترف بالمستحيل. امتلاؤه بحب الحياة يُحطِّم أمامه أيَّ مستحيل. والمهم في الحب هو الأسلوب. لا شك أنّ أخطرَ وأعمق قصيدة كُتِبتْ عن الأسلوب، كتبها الشاعر المتمرد الشهير تشارلز بوكوفسكي. الأسلوب هو الجواب لكل شيء، وفقًا لبوكوفسكي في قصيدته «Style». أفكّر أن أضرب بكل شيء عُرْض هذا الحائط، حائط قلبي، وليكن هذا أسلوبي الجديد في الحب القادم، في حياتي القادمة. الجميع سيحدثك عن الحب بتأنُّق، ولكنّك لن تجِدَ واحدًا يعيشه بإتقان، أو يمنحك إياه بصدق. الحب مادة سِحْرية سهلة جدًّا نصنع منها الأكاذيب والآمال والأقنعة. لا أشك في ذلك.
اللعنة، إنهم لا يفهمونني أبدًا. غير أنّي مثلهم تمامًا، لا أفهمهم. لن أفهمهم. الواحد منا لا يفهم الآخر وإنما يقتله. وأعتقد أن الأمانَ تخلّى عن هذا الوطن لهذا السبب. عالَمٌ بشري غريب يستعصي على الفَهْم، يعميك رغم شدة وضوحه. أنا يُمْعِدُني ذاك الذي لا يريد أن يفهمني ويريدني أن أفهمه. الأحمق الذي يهاترني إغراقًا في العبثية. أقسى من الموت أن لا تجد من يفهمك. وهذه حالة قاسية بلا حدٍّ، لكنها لن تدفعك للانتحار! سوء الفَهْمِ مَجْلَبَةٌ للعبث، للفوضى والعنف. إنه أشد من سوء التغذية خطرًا.
دائمًا كان يذهب إلى الحب بقلبه الكبير، المفتوح من أسفل كهاوية، ويعود بلا قلب ولا ظل. كان يرسم حُلمًا جميلًا في فضاء الحب الذي صار بيتًا للريح والدماء. كان يعطي الحُبَّ سماءه المُضيئة ويعطي نفْسَهُ ظُلمةَ القاع. كان إلى الحب يركض كالمجنون حافيًا ويُغنّي في الطريق مثل المطر. ثُمَّ كان ينطفئ من حزن إلى حزن، حتى ذابَ واحتواه هذا الفراغُ الباردُ كالموت. ما زال يبحث عن الحب الذي الذي لا تسكنه الأشباح. كم صار ينذعر من الحب الذي يُشبِه المجهول مُتكدِّسًا بين جدران كهفٍ قديم. ينذعر من الحب الكئيب الذي يبتلعني حتى الرماد. البحثُ جارٍ، ومستمر.
إنه العبث. أدهشني كثيرًا ما قرأتُه ذات يوم في «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ. أقلقني كثيرًا. يقول محفوظ: «العبث هو فقدان المعنى، معنى أي شيء. انهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء. والسير في الحياة بدافع الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال وسلبية وتمسي البطولة خرافة وسخرية ويقدم أحدهما – إذا قدم – بدافع من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموت القيم جميعًا وتنتهي الحضارة». إلى هذا الحال المخيف انحدرُ واقعنا بسبب هذه الحرب!
على المرء أن يقرأ مُبكِّرًا إذا أراد أن يعيش طويلًا. أن يستنيرَ في باكورة عمره. عليه أن يكتشفَ نفسه قبل أن يبدأ الحياة. الاستنارة المبكرة تحصّنك ضد الوفاة المبكرة. لا يتغلب على الموت إلّا الذي فَهِمَ الحياة فهمًا عميقًا ومليئًا. مع ذلك، يا ليته ما عرفَ القراءة، ولا اِحْترفَ الكتابة، ولا شربَ من أسطوانة الوجود المشروخة. يا ليته هذا الرصيف المستريح الذي تنام فوقه كلاب حارتنا كلَّ ليلة وهي جائعة. هذه الكلاب التي لا تحلم بشيء لأنّ أسلوب حياتها يقتضي ذلك. مرامه الآن أن يعيشَ حُرًّا من كل هذا العبث الجاثم فوق صدره. لم يعد ثمة أفق. أرهقتْهُ البارحة فكرةٌ ضبابية لم يستطع تحويلها إلى امرأة دافئة تعانقه، إلى شمعة تُضيء له الطريق ولا تذوب. فكرة ترغو داخل رأسه مثل صابونة غسيل سريعة المفعول، أو مثل خرافة تفشو سريعًا وتنتفِخُ مع الزمن. إنها فِكرةٌ مُزعِجة مثل امرأة مُدلّلة لا ترى أبعد من أنفها لأنّ عقلَها في لسانها. مؤخّرًا اِنْزلقَ صاحبي إلى داخل امرأة مُدلّلة حوّلت جحيمه إلى جحيمين. حياتنا كلها ضبابية. وفي الحياة الضبابية نفقد كل شيء دون أن نعرف الأسباب. أو ننتهي بسرعة لا نشعر بمرارتها إلا في القبر. كل الحروب تندلع في الأجواء الضبابية، في الأوقات العصيبة. هي في الحقيقةِ تحدث في كل لحظة.
ذا أنا الآن في منتصف السادسة والعشرين من عمري، بالطبع أنتَ لا يعنيك هذا، ولكن جميع هذه الأعوام ذهبتْ سدًى، فارغةً من أي نجاح يحمل اسمي، وتركت لي مراراتها الثقيلة عالقةً بقلبي. كم يا أزماتٍ يكابدها الإنسان، يوميًا، في هذه البلاد الخَرِفَة ذات الاستقرار المعدوم. هنا مهما حاول المرء لينجحَ في أي شيء، فلا بد أن تنتهي حياته وهو فاشل في كل شيء. المرء هنا يُولد ويشيخ ويموت ولكنه لا يعيش. «هناك فرص قليلة في الحياة. الفرصة هي القطار الذي ينتظره المرء طوال حياته، فإذا لم يصعد فيه فاته. يا إلهي، كم قطارًا فاتني حتى الآن!» ستقرأ هذا الكلام ذات يوم في «كوميديا الأشباح» لفاضل العزاوي، وأظنّك ستبكي مثلي بغير شعور، ثم ستضحك على ما فاتك. أنا لستُ بيائس ولكنني بهذه الطريقة الناجعة أدفع فشلي نحو النجاح، أدفع الفاشلين إلى النجاح في الفشل على الأقل. لا تقلقوا عليه بل دعوه يحفر قبره في هذا الجدار السميك. دعوه يحشد أسوأ كلماته ويتجحفل ضد الموت الذي يفترسه.
لا أفهم لِمَ أنا متفائل رغم كل هذا الدمار. الموت هو هذه السرعة الطائرة التي تمضي بها الأعوام. الزمن القصير الذي يعيشه الإنسان ليس عُمْرًا حقيقيًا لو نظرنا إليه بعمق. أحيانًا أشعر أنني قد عشتُ دهرًا لا نهاية له. وأحيانًا أشعر أنني حديث الولادة. لكنني أشعر بالوجع الشديد عندما أرى عمري القصير يفلتُ من قبضتي ويذوب سريعًا. أنا لم أنجز عملًا مفيدًا حتى الآن، لم أنتج شيئًا يبرّر وجودي. أمّا الكتابات التي أمتلكها فلن تمنحني أي مستقبل أفضل. أعرف. أبدِّدُ الكثيرَ من حياتي في الكتابة لكي أشعرَ للحظةٍ فقط بأني موجود. المتعة البسيطة، المؤقّتة، التي تجلبها لي الكتابة، أشعر بعدها بالخسارة المريرة. قمة بؤس الإنسان أنه سيضحي بكل ما لديه لينالَ على متعة عابرة، فرحة قصيرة، كلمة جميلة، وغالبًا لا يحصل على واحدة منها. إنه يتخبط دائمًا، هكذا يتخبط حتى الرمق الأخير ولا يصل إلى شيء ذي قيمة. إلّا أنني لستُ أخشى هذه النهاية السوداء. المؤكّد أنني لن أنجزَ أيَّ شيء في هذا العام الجديد أيضًا. أعرفتُم الآن لماذا أعيش؟