- خلدون العامري
بداية دعوني أوضح لكم ماهية ومضة الحكمة من حيث المعنى والمبنى وأوجز بأنها : “القول الحكيم الهادف بمضمون مجازي شديد العمق الذي يضمر معنى قيمي وارف مفجرا في خيال القارئ حَرَاكًا ذِهْنِيًّا عاصف،، وتبنى بجملتين فعلية ماضية شديدة التكثيف حيث لا تتجاوز 8كلمات، تُتوج بعنوان نكرة متجانس الدلالة من غير تكرار، وتُنصف بفاصلة تعليلية(؛)، ثم تنتهي بنقطة حتمية(.) وبإيحاء وانزياح لفظي عظيم تختزل جملتا السبب والنتيجة مشروطة بالارتباط والمفارقة والمباغتة المدهشة ..
بهذه الشروط التعجيزية ونظرا للمساحة الكتابية الضيقة المقدرة ب70حركة رقمية نستطيع الجزم بأن هذه الكتابة من أصعب الكتابات، لا يجيدها إلا من كان متسلحا بالمعرفة الواسعة متمتعا بالعقلية الكبيرة القادرة على قراءة ما حولها واستنباط الحلول الناجعة واعادة تمريرها بعد تشكيلها على هيئة حكم واعية بصيغة مكثفة جزلة ..
من هذا المنطلق أقدم قراءة في ومضة الحكمة بعنوان “انهزام” للكاتبة/أ.سكينة شجاع الدين.
“انهزام
ثار النسيم؛ خنعت الرياح.”
- التكثيف: 5 كلمات فقط، ويعد نموذجي جدا حيث لا نستطيع الاستغناء عن حرف واحد من الومضة ..
- العنوان: انهزام ..
ه ز م مصدر اِنْهَزَمَ خسران وخذلان .. جاء العنوان نكرة لفظية لم يتصل بأيّ من ألفاظ النص ولم نشهد ضميرًا متصلًا يعود عليه ..
إلا أن دلالة الاستستلام الواردة في جملة النتيجة أوحت بالتجانس بالتالي فالعنوان مطابق للمعايير ..
- جملة السبب: “ثار النسيم” جملة فعلية مكتملة من فعل وفاعل هما:
- ثار (فعل ماضي) ويعني انتفض ووثب محدثًا ثورة.
- النسيم (فاعل) ويعني الريح اللينة التي لا تحرك شجرًا ولا تعفي أثرًا ..
- جملة النتيجة: “خنعت الرياح” جملة فعلية ايضا شملت التجانس وبلغت أقصى حدود التضاد محدثة مفارقة ومباغتة:
- خنعت من خنع (فعل ماضي) بمعنى ذل وخضع ..
- الرياح (فاعل) ويعني الهبوب المداري متغير الشدة والاتجاه المخلف للجفاف، ومجازًا ايضًا يطلق على ضياع الجهد دون الفائدة ..
- التضاد:
- جاء التضاد جليًا في فعل السبب والنتيجة: “ثار” و “خنعت”.
- وجاء متواريًا في مدلول فاعل السبب والنتيجة: “النسيم” و “الرياح” (اللذان هما من نفس عائلة المعني).
- التجانس:
أما التجانس نجده ممزوجًا بالتضاد في شقي الومضة مشكلًا قيمة بلاغية كبيرة،، كما في “النسيم” و”الرياح” فمن جانب تحمل الكلمتان تجانس كونهما تعبران عن عالم موحد هو “عالم الهبوب” النسيم كأدنى درجة، والرياح درجة أعلى،،
ومن جانب آخر تحملان معني التضاد في مدولوليهما “اللطيف والعنيف”.
- المبنى: جاء المبنى مستوفيًا كافة العناصر مطابقًا لجنس ومضة الحكمة، كما حوى مفارقة لم تكرر نفسها في النتيجة والسبب ..
- المعنى:
العنوان انهزام والحقيقة انتصار، انهزام العابث المتجبر خنوع العصابة المظلمة المتعطشة للدماء وانتصار قيم الجمال والمحبة انتصار الحمل الوديع الرافض لغة الدم والبارود ..
جملة السبب “ثار النسيم” سبب سيؤدي إلى نتيجة حتمية .. في هذه الجملة مقاربة بديعة إذ تصور أبناء الوطن بالنسيم وفيها نجد دعوة صريحة بعدم السكوت عن الحقوق المصادرة وعدم التسليم والرضوخ لتجبر الجبابرة .. دعوة للاقتداء بالنسيم والعمل على تفجير الطاقات إعلاء لقيم المحبة والتسامح والجمال ..دعوة للنهوض وانتزاع الحقوق المسلوبة ..
مستلهمة قول شاعر الثورة “والشعب لو كان حيا ما ستخف به فردا ولا عاث فيه الظالم النهم”
- جملة النتيجة “خنعت الريح” جاءت مفارقة ومباغته .. بينما بعد ثار النسيم كانت النتيجة المتوقعة تحول ريح لكنها لن تحوي مفارقة وستكون بلا دهشة إنما جاءت هكذا مباغتة بخنوع الرياح .. وفي جوهرها أمل وحافز للنهوض .. لا شيء يعيق الحلم لا شيء أكبر من الحق ..
ختامًا أستيطع القول بأن الأستاذة سكينة في أقل من سطر لخصت قضية وطن شخصت الداء وقررت الدواء بينت العلة برمزية الريح العابثة بدماء ومقدرات الشعب، وحددت الترياق بثوران النسيم .. هكذا بحكمة هادفة وبلغة أدبية مكثفة، باذخة الأناقة، صاغت ومضة يتسرب منها الضوء وفراشات الأمل ..