- ضيافه البراق
أروع حلّاق في حارتنا حلقني هذا المساء وهو غاضب. إنه غاضب من هذه المرحلة الكارثيّة بحذافيرها. لم أقل له هوِّن عليك، وإنما شغّلتُ له من مسجِّلة هاتفي المحمول أجملَ ألبومات محمد منير، ليقيني بأنه مثلي تمامًا مُولَّعٌ كثيرًا بأغاني “الكينج”، ومن أول أغنية صار صاحبي رائقًا. ثُمَّ بدأ بحلاقة رأسي بطريقةٍ إبداعية مميزة، كما لو كان يكتب شِعرًا ساحِرًا، شيئًا فشيئًا حتى انتقل إلى وجهي ونحت فيه سكسوكة خفيفة وأنيقة جدًّا، ولتكن هذه السكسوكة هي الثانية في حياتي العارية. زاد انطرابنا مع ازدياد حلاوة الأغاني، وانقشعتْ عن قلبينا الغيوم الكئيبة، فابتهجنا رغم المرارات. عذوبة الكينج الغنائية، المنقطعة النظير، انتشلتنا من الحضيض، قليلًا، قليلًا، وطارت بنا إلى فضاءات روحية سعيدة. وحلّاقي المُفضَّل هذا، تحدثتُ عنه بنص أدبي سابق وذكرت اسمه ونشرته للعامّة على صفحتي الفيسبوكية البسيطة، هذه، ولذا ليس من داعٍ لذكر اسمه هذه المرة.
إنه صاحبي العزيز وكفى. بقيتُ أمامه جالسًا على الكرسي مدة تزيد على نصف ساعة، حكينا فيها عن كل شيء، بغيرِ استغراقٍ في تفاصيل هذه الحرب القبيحة المُتكاثِرة، ضحكنا وسخرنا مما نحن فيه، وصبّينا لعناتنا الجريئة على رأس مستقبلنا المأكول أو الضائع. الإنسان عندنا إمّا يضحّي بحياته وحاضره من أجل المحافظة على تراث الماضي المريض، وإمّا يضحّي بها من أجل المستقبل الجميل والزائف الذي يَحلُم به، وهو في كلتا الحالتين، يخسر كلَّ شيء وينتهي عدمًا. المستقبل ساحة جديدة ننسى فيها الحاضر، بل نُدمِّره ونواصل فيها حروب الماضي. إنها السيزيفية القاتلة نحملها معنا وفوقنا أينما ذهبنا دون انقطاع. والأنكى، أنّ هنالِك من يفكّر بالماضي، ويغوص في أعماقه دائمًا، لا لكي يفهمَ الحاضرَ ولا لكي ينظرَ إلى المستقبلِ نظرًا عِلْميًا صحيحًا، وإنما لكي لا يفهم شيئًا، بل ليزدادَ جهلًا ويموت به!
والتفكير بالمستقبل، كما يقول أوشو، هو غذاء العقل، وبالتالي، يموت العقل إذا توقّفَ عنه. وأنا، كما تعلم الريحُ عنّي، لا أعطي وقتي للمستقبل ولا أُصدّق الخرابيطَ والتهريفات المزخرفة التي تقولها أبواقُ التنمية البشرية عن المستقبل، وترسمها لنا بالألوان الزيتية الفاقعة لتخدعنا بها بعض الوقت. أنا العربيَّ الهائمَ على وجهي، المكتظ حتى الثمالة بالعذاب والخراب، ليس لي حتى موقع قدم في المستقبل. أنا لا أهرِفُ بما لا أعرف، ولكنّي لا أستطيع الابتعاد عن الحقيقة.
وحدّثني، وهو يضحك بحزن، بأنه شاهدَ في اليوتيوب محاضرةً لشيخ دين سَلفي، يمني، عنوانها «مُستقبَل اليمن في السنة النبوية»، ومدتها أكثر من ساعة، وخلاصتها هي أنّ الإيمان سيتلاشى من كل البلدان وسيبقى راسخًا في اليمن… هذا العنوان الحداثي العميق الخاطِف يُذكِّرني بعنوان مجموعة شعرية أو شَعِيرية صدرت منذُ وقتٍ قريب، واشتهرت وانتشرت!
وحدّثته أنا عن المقالة الأدبية الطويلة التي قرأتُها أمس وتكررت فيها عبارة «على قارعة الطريق» أكثر من عشرين مرة، وفي سياقات مُغْلَقة لا تؤدي إلى أيِّ طريق، ولكنها نبّهتني إلى يوم القارعة، يوم الحساب والعقاب، شعّرتني بعذاب ذلك اليوم المخيف الفَاصِل!
ثم انتقلنا إلى موضوع التطبيع المتفشي في المنطقة حاليًا، وشجبَ صاحبي التطبيعات الحكومية العربية الرسمية الخائنة القذرة مع مشروع الكيان الصهيوني العنصري الغاصب، أدانها بغضب شديد واعتبرها حربًا أخرى شاملة لا على القضية الفلسطينية وحدها بل أيضًا على مستقبل العرب وكرامتهم جميعًا. ولم ينسَ أن يشتمَ ويلعنَ التطبيعات العربية التي تجري من تحت لتحت؛ فهي الأخطر والأسوأ على حد قوله. والطبْعُ، وفقًا للعربية الفصحى، يعني الخُلُق. ونحن اليمنيين عندما نتأذّى من أي مخلوق، نصِفه مباشرةً بأنه غير «مُطبَّع»، أيْ ليس مؤدَّبًا. ونقول عن الشخص الفوضوي، مثلًا، فلان لم يُطبِّعه أبوه. وجوهر الشخص يُعْرَف من طَبْعهِ الذي يُعامِلك به، أو من سلوكه مع غيره، ومن هذا المنطلق نحكم عليه أو نحكم له. إنُ المطبِّعين العرب مع إسرائيل، هم أصلا بلا طبع، فلا يُدهِشك سقوطهم!
وفي هذه الأيام الرخيصة إلى أبعد مدى، أصبح من السهل جدًّا طبْع الكتب والمستندات ومختلف التفاهات، وأي شيء، حتى الإنسان، وحسب الطلب وبأقل تكلفة. وليس شرطًا على المرء، إذا رغب بأن يطبع كتابًا أو مجلدات كثيرة، أن يكون كاتبًا أو شاعرًا أو أديبًا أو فيلسوفًا، وإنما عليه فقط أن يؤلِّف أي شيء، ثم يرسله إلى المطبعة موقَّعًا باسمه بخط عريض، وهي بدورها تتكفّل بالباقي وتمنحه شهرةً واسعةً في زمن قصير.
وغادرتُ صالونَ صاحبي الطيّب، وروحي ترتعد خوفًا من خطر المستقبَل الآتي، من دمويّته الفوضويّة، ومن آثاره الثقيلة على الرأس والقلب والرُّكْبَتين. إنه مستقبلُنا الرائع جدًّا، المُحترَم بكل المقاييس!