- ضياف البراق
العاميّة، التافهة والرثّة والركيكة، تزحف كثيرًا على روح الفصحى، تخنقها يوما بعد يوم، تعزلها عن الواقع، تُقلِّص حضورَها على منصات الثقافة والأدب والإعلام، في أرضها، وتلتهم مكانها ومكانتها، حاضرَها ومستقبلَها. يا له من زحف خطير، ويا لنا من أغبياء إذ نغض الطرف عنه!
لن يبقى لنا شيء جميل إذا فقدنا لغتنا الفصحى الجميلة. هي الكلمةُ الفصيحة العميقة، لا العامية الركيكة، تُرقِّينا باستمرار، وتأخذنا، ذوقيًا وثقافيًا، إلى المستقبل الأفضل. لا يتحضَّر شعبٌ لغته هزيلة أو ميّتة. ولا يرتقي شعبٌ بغير لغته الأم. أنا مع أُنسي الحاج إذ يقول إنّ “اللغة المعاقة تنحت بشرًا معاقين”. والحضارة لا تنبثق إلَّا من صميم لغة حيّة، سليمة ودقيقة، واضحة وعميقة. والإنسان يرتقي كلما ارتقت لغته. نَعمْ، اللغة المعاقة لا تصنع شيئًا جميلًا أو سليمًا. صحيحٌ أن العاميّة سهلةٌ جدًّا، على خلاف الفصحى، ولكنها لا تصلح إلّا للثرثرة والتخلُّف، وليس للإبداع والتقدُّم. العامية لغة بلا ضوابط وقواعد، وهي لهذا السبب ليست صالحة للخلق الإبداعي، الفني والجمالي. لا تصلح للفكر الثاقب. إنها غير اِرتقائية على الإطلاق.
الكتابات المُنفلِتة من قواعد اللغة، أو غير المُلتزِمة بضوابط وعلوم اللغة، هي التي تُفسِد أذواقنا وثقافتنا، وتُهين الكلمة كثيرًا. إنني لا أحترم الكتابة التي تتعامل مع اللغة بسطحية وهشاشة، أو بفوضوية واحتقار، أو على اعتبار أن اللغة مجرد وسيلة للثرثرة والنعيق، أو لعبة للهو والتسلية وليس غير.
المأساة الفاجعة، اليومَ، أنّ متكلمي العربية، أنّ أبناءها الأقحاح لا يحترمون لغتهم هذه ولا يقتربون من أعماقها. جراحًا أثخنوها، أمراضًا أشبعوها، لوّثوا وسحقوا جمالياتها، ولذا تراهم يتبعثرون أشتاتًا ويتمزّقون شظايا. لا تحسبهم أيقاظًا، إنهم أمامك الآن رقود في غَيَاهِب الموت. يا قاتِلَ أُمّكَ، إنها حياتك فلا تضيِّعها من يدك. والرقود لا يقولون شيئًا، حتى إذا تكلموا أو كتبوا!
العربية الجميلة جدًّا، روحنا الغالية، تموت اليومَ من قلة احترامنا لها، ولا يوجد إنسان مُعاصِر مثل العربي يعبث بلغته وينتقص قيمتها. وهناك مَن يُدمِّر الفصحى، ويُخرِجها من تاريخها العريق، ثُمَّ يدّعي أنه يُطوِّرها! الشيء لا يتطوِّر إلا داخل تاريخه، وبشروطه التاريخية، وإخراجه من تاريخه يقتله ولا يُطوِّره. إنه من الفشل الفادح أن ننقلَ لغةً إلى الحداثة بعزلها عن تاريخها الحقيقي. والصراع بين العامية والفصحى، صراعٌ طويلٌ جدًّا، ولن ينتهي؛ إنه سُنّة طبيعية وضرورة تاريخية.
العربية الفصحى لذيذة جدًّا وليست بشديدة التعقيد، فهي غنيّة وارتقائية، صالحة لكل العصور، ولكل الفنون والعلوم، ولكنها أُهَمِلَتْ كثيرًا وعميقًا، وتعرّضتْ لتهمشياتٍ بلا حساب وهجماتٍ عنيفة، من داخلها وخارجها، وقُسِرتْ على الحداثة قسرًا، فلمْ تتكيّف معها بشكلٍ طبيعي وسليم. غير أنها، بطبيعتها، لا ترفض التطوُّر الحقيقي والصحيح، ولكنها لا تقبل التطوُّر الزائف والمريض، إنها تستجيب للحركة التقدميّة، بعفوية واتسّاعية، دون التضحية بهويّتها الخاصة وخصائصها المميزة. أمّا الذين يزعمون العكس، فأغلب زعماتهم مريضة وغير صحيحة وإن ظلّت مُستمِرّة.
وختامًا، لا تقل لي إنّ عربيّتنا الفصحى لا تصلح لأن تكون لغة علمٍ وحضارةٍ، ولا تُحمِّلها عيوبَ متكلميها الراقدين وأمراضَ خصومها الحاقدين، إنها براء من كل هذا الغُثَاء، والتاريخ الماضي خير شاهدٍ على ما أقول.
- ضياف البرّاق.