- كتب: محمد الشرعبي
أعتقد أن النقد الأدبي بمناهجه المختلفة لايخرج أبد عما يسمى بنظرية التلقي، فكل محاولة نقد لهذا النص أو ذاك من قبل المتلقي يعد تلقيا، بمعنى أن النقد جميعه يدور في المكون الثالث لمخطط (جاكبسون) المتمثل به.
أما بالنسبة للمناهج فهي وسائل توضح كيفية تناول النصوص الأدبية وطرق معالجتها.
تبين لنا كيف نبدأ في حالة أننا استخدمنا هذا المنهج أو ذاك وكيف ننتهي لا أكثر.
وبما أن الأمر كذلك فقد أرتأيت في أثنا قراءتي كتب التنمية البشرية أن أشق طريقا يمثلني في نقد النصوص من خلال استخدام هذا العلم في تحليل النصوص الأدبية ومعالجتها كأحد الإجراءات المتاحة بين يدي.
يمكنني أن أتناول النصوص من زوايا مختلفة، فالمناهج النقدية بلاشك كثيرة ومداخلها مختلفة أيضا.
لكني في هذه القراءة سأحاول أن أكشف عن النظام الداخلي للشاعر يحيى من خلال قصيدته المعنونة ب (أناشيد الأمل والأنين الجزء الثاني)
بقصد الوقوف على نظامه الذي يقوم بتوجيهه لاشعوريا باختيار هذه المفردة لا تلك.
فهذا الإجراء الذي سأتناول به نص الحمادي لم يسبقني إليه أحد حسب علمي.
فهي فكرة خاصة بي راودتني في أثناء قراءتي كتب البرمجة اللغوية العصبية كما أسلفت.
هذا الإجراء يعد من وجهة نظري إجراء سيميائيا من حيث أنه ينطلق من النص لمعرفة المرسل خارجه، ويعد إجراء أسلوبيا كونه يكشف عن النظام الداخلي لكل شاعر من ناحية أخرى.
لكني قبل أن أبدأ أيضا أود أن أشير إلى أن علم البرمجة اللغوية العصبية يقسم البشر حسب أنظمتهم الداخلية إلى بصري، سمعي، حسي(شعوري).
يجمع المرء بين تلك التقسيمات بنسب مختلفة، فمنهم من نظامه (بصري سمعي حسي) ومنهم ( سمعي بصري حسي) ومنهم (حسي بصري سمعي) وهكذا يمكنك التبديل والتوفيق بين تلك المكونات حسب علم الجبر.
والجدير بالذكر أن الشاعر الذي يغلب عليه الطابع البصري يكثر من الصور والكلمات والمشاهد التي تدرك عن طريق حاسة البصر والعكس صحيح أيضا.
وإذا كان هذا الشاعر بصريا وذاك سمعيا وآخر خليطا من هذا وذاك فما الفائدة المرجوة من معرفة ذلك للنقد الأدبي؟
لا شك أن معرفة ذلك يساعدنا على كشف أسلوب الشاعر المتاوري خلف معجمه اللغوي
كما أن معرفة ذلك يساعدنا على معرفة أشياء خفية عن هذا الشاعر أو ذاك باعتباره إجراء سيمولوجيا.
لن أطيل هنا كثيرا بالتنظير لهذه الفكرة وسأكتفي بما قدمته لأسأل بالنيابة عن القارئ ماذا عن هذا الشاعر الذي تناولته بالدرس والتحليل؟
ما هو نظامه الداخلي؟
قبل الإجابة عن ذلك أود أن أشير أيضا إلى أن هذه المحاولة تعد هي الأولى من نوعها، فهي ليست حقائق مطلقة، وإنما هي محاولات قصد منها التجريب، وإطلاق الفكرة أمام القراء من النقاد ليعيدوا بلورتها بشكل صحيح إن كانت غير موفقة.
ففي النص الذي بين يدي قمت بحصر أول ثلاثين فعل منه كعينة للتحليل، ومن خلالها سنحاول معرفة نمط الشاعر الذي يحتويه ويوجهه.
وَجَدتُ -لِلهُــرُوبِ مِن قصــائــدي- مَلَاذا
وكُنتُ غَـيرَ مُــدركٍ وَجَــدتُــــهُ لِمـــاذا!
فَصَـارَ إِن رَجَوتُهُ استَدارَ، واسـتَعاذا
وصِرتُ بين حَنَّـــةٍ وأَنَّــــةٍ جُذَاذا
وزَفرةً حَبِيـسَةً تُحـاوِلُ النَّــفَاذا
وها أَنا أُقِرُّ.. غَيرَ مُدرِكٍ بِماذا!
وهذه قَصِيدةٌ تُقِرُّ لِي بهذا
أَمَــامَ كُلِّ عــامِلٍ
مُكـافِحٍ، وعــاطِلْ
أَمَــامَ كُلِّ نـــازِحٍ
وكـــادِحٍ، وسَـائِل
أَمَــامَ كُلِّ جاهِـلٍ
أَمَــامَ كُلِّ عــاقِل
أُقِـرُّ بِالهُرُوبِ مِن
أَسَايَ، دُون طائِل
وها أَنا أَعُــودُ، أَو
كَعَـادَتِي.. أُحَـاوِل
لِأَنَّ لــي قَضِيَّـــةً
أَنا ابنُهـا المُناضِل
وأَنَّ بِاستِطاعَتِي
كِتـابَةَ الـمُفَــاعِل
وأَنَّ كُلَّ سَـــاكِـتٍ
عن الدِّماءِ قــاتِـل
حَفِظـتُ ما حَفِظـــتُ مِن قَصَـائِدِ الرِّثـاءِ
قَرَأتُ في النَّسِيبِ، والمَدِيحِ، والهِجَـاءِ
فلم أَجِـد قَصِيدةً أَشَقَّ مِن شَقــائي
ولم أجِـد قَصِيدةً أَعَـزَّ مِن عَزَائي
وكُلَّما سِئِمتُ مِن زِراعَةِ الهَوَاءِ
وكُلَّما أَرَدتُ أَن أَلُـوذَ بِانطِـوائي
شَعَرتُ أَنَّ شاعِرًا يَئِنُّ في السَّماءِ
وأَنَّ أَلفَ كَعــبةٍ تُــدَاسُ في دِمـائـي
وأَنَّني طَوَيتُ -بِانطِـوَائِـــيَ- انتِمـــائِي
وأَنَّنــــي أَهَنــتُ بِالسُّكُـــوتِ كِبرِيَـــــائي
لقد قَضَيتُ عَشرةً
مِن السِّنِـينِ قَهــرا
قَبَضتُهُنَّ صَرصَرًا
أَحَلتُــهُــنَّ نَهــــرا
وصُغتُـهُـنَّ أَنجُـمًا
وأَنمُـــلًا، وزَهـــرا
وزِدتُهُنَّ عُمرِيَ الـ
ـذي أَضَعـتُ مَهرا
ولَيــــلةً فَلَيـــلَــةً
حَمَلتُهُنَّ دَهــــــرا
(وجدت.كنت.وجدته.صار.تحاول.أقر.تقر.أقر.أعود.أحاول.حفظت.قرأت. أجد. أجد.أعز. سئمت.أردت.ألوذ.شعرت.يئن.تداس.طويت.أهنت.قظيت.قبضتهن.أحلتهن.وضعتهن.وزدتهن.أضعت.حملتهن).
من المعلوم أن الانزياحات الدلالية تصرف الكلمة من المعنى المعجمي إلى المعنى السياقي لذلك سأحاول هنا أن أعتمد المعنى الذي يدل عليه السياق في القصيدة.
فعند إعادة النظر في تلك الأفعال سنجد الفعل وجدت البصري (وجدت ملاذا) فالملاذ المتبادر إلى الذهن هو المخبأ وهذا يدرك عن طرق البصر بمعنى أن الفعل بصري.
“وكنت غير مدرك وجدته لماذا”
فالفعل (كنت ووجدته) في هذه الجملة يدور في العقل ويدرك به وليس عن طريق البصر أو السمع أو اللمس ولذا فإن المشهد في هذه الجملة شعوري.
“فصار إن رجوته استدار واستعاذا”
الصيرورة هي التحول من شكل إلى شكل ومن هيئة إلى هيئة، وهذا التحول قد يكون تحولا بصريا أو سمعيا أو حسيا لكنه في سياق هذه الجملة يعد تحولا بصريا سمعيا.
“فصار إن رجوته استدار واستعاذا” فالمشهد هنا مشهد بصري سمعي (استدار واستعاذا) فالإستدارة تدرك عن طريق البصر والاستعاذة عن طريق السمع.
“وصرت بين حنة وأنة جذاذا”
فهذا المشهد أيضا خليط من البصر والسمع (حنة وأنة) مشهد صوتي (صرت جذاذا) مشهد بصري
“وزفرة حبيسة تحاول النفاذا”
فالزفرة التي تحاول النفاذا شيئ يدرك عن طريق الصوت والإحساس أو الشعور.
“وها أنا أقر غير مدرك لماذا”
(أقر ) مشهد سمعي.
ومثلها “وهذه قصيدة تقر لي بهذا”
“أمام..
أمام…
أمام..
أقر…..الخ”
هذا المشهد الطويل في القصيدة مشهد بصري سمعي، فهناك يجثو الشاعر بداية أمام كل أؤلئك الذين عددهم كالعامل والمكافح والعاطل …الخ ثم يقر أمامهم بالهروب، ولإقرار لن يكون إلا عن طريق الصوت.
” وها أنا أعود .. أحاول .. كتابة المفاعل ” كل هذا يدرك عن طريق حاسة البصر.
“حفظت…” فالحفظ شعور يكتنف المرء يدركه بواسطة عقله “قرأت في النسيب ..” مشهد صوتي.
“فلم أجد..ولم أجد” مشهد بصري شعوري.
“وكلما سئمت..” مشهد شعوري ومثله “أردت” و” شعرت” .
“يئن في السماء” مشهد صوتي.
“تداس …” مشهد بصري ومثله “طويت”
“وأنني أهنت… ” مشهد شعوري.
“قبضتهن .. حملتهن دهر” فهذا مشهد بصري ممتد كل تفاصيلة تدرك بالبصر فمن فعل القبض مرورا بتحويلها إلى نهر وانتهاء بمشهد الحمل.
من ذلك نستنتج أن النظام الداخلي ليحيى في هذا المقطع الذي قمنا بتحليله نظام (بصري سمعي شعوري) ويزيد هذا الاستنتاج تأكيدا حرص الشاعر على الشكل الهندسي للقصيدة.