- كتب: محمد ناجي أحمد
عند حديث المؤلف عن مقتل أربعة أطباء في مستشفى جبلة في محافظة “إب” يقول “مقتل أربعة من الأطباء الأمريكان في مستشفى جبلة المعمداني التبشيري في محافظة “إب””ص116.
نعت وظيفة المستشفى بالتبشيري يعكس تبني المؤلف لفكر سياسي ديني يلتقي مع القتلة على أرضية واحدة، وإن كان المؤلف لا يفتئت على السلطة الحاكمة كونها هي المخولة بمواجهة التبشير وليس من قاموا بتنفيذ حكم القتل!
فكر المؤلف السياسي هو مزيج من أسطورة قحطان وهود، أي الهوية العرقية والطائفية حين تتبدا كمقابل لثنائية “الهاشمية السياسية” أي الاصطفاء العرقي والرسالي، وهي مقابلة بقدر ما تبدو في تناقض وصراع إلاَّ أنها في جوهرها المعرفي تعاضد بعضها وجوديا وكيانيا، وفق تجاور ينطلق من عقل سياسي هوياتي جذره العرق والمذهب؛ أي اسطورة الاصطفاء الجيني والانتقاء الإلهي، وحدة انتقاء الأرض وانتقاء السماء.
دندن المؤلف في الأرضية النظرية للكتاب حول العرق القحطاني والحميري المتكئ على صولجان نبوة يمنية تتجسد بـ(هود)، في تكامل مع النزعة الدينية المذهبية التي ترى في الآخر الديني والعرقي رجسا من عمل الشيطان.
وإزاء الخصم العرقي /المذهبي ينظر المؤلف إلى الاستعمار التركي والبريطاني بقدر من التسامح مع إعطائه تكييفا وتموضعا تاريخيا مقارنة مع خصومته الرئيسية إزاء “الهاشمية السياسية” بل إن الاحتلال التركي لدى المؤلف حين يتحدث عنه في مصر يبدو في لغته حقبة من حقب الحكم المصري ، يتساوى في ذلك مع الحكم الفاطمي والأيوبي والمملوكي، متجاهلا حقيقة ساطعة وهي أن الفاطميين والأيوبيين والمماليك صُهِروا في بودقة مصر والشام، في حين ظل الاستعمار التركي استعمار جباية ونهب الريع من الفلاحين ليكدسه في الأستانة، ويحصد شباب مصر والشام ليلقي بهم في أتون أطماعه وحروبه في اليمن والبلقان!
يكرر المؤلف بغرض تكريس إحلال المختلق محل حقائق التاريخ بأن علي عبد الله صالح صعد إلى سدة الرئاسة لأنه كان من رموز وأركان حركة 13يونيو 1974 “التي كان الرئيس علي عبد الله صالح أحد أركانها ورموزها…”ص144. حسب زعم المؤلف، وهذا القول غير صحيح ، لأن النظام الذي جاء بعد 17يوليو 1978 كان استعادة لجمهورية 5نوفمبر، ومشروع ومقررات مؤتمر خمر الأول 1965م، بما في ذلك المؤتمر الشعبي العام وميثاقه.
لم يكن الرئيس علي عبد الله صالح يملك سلطة مطلقة ، بل كان مظلة ورمزا لتحالف قوى المشيخ السياسي والعسكري والديني والتجاري، وهو تحالف في مشروعه ومنطلقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النقيض من مشروع حركة 13يونيو، نقيض لها في التعاونيات ولجان التصحيح المالي والإداري وفي بناء جيش وطني وفي الخطة الخمسية والاقتصاد الموجه مع توازن ومزاوجة بالاقتصاد المفتوح، ونقيض في الثقافة والإعلام والتربية والتعليم وفي مفهوم الثقافة الإسلامية ومع أفق 13يونيو الوطني والعروبي، ونقيض لها في محتوى وتوجه وميثاق المؤتمر الشعبي العام الذي تم اختطافه فكرة وإعدادا وميثاقا وتوجها ليصبح مظلة سياسية لتحالف قوى 5نوفمبر بل ومظلة لتنظيم الإخوان المسلمين في اليمن.
لم يكن الرئيس رمزا من رموز وأركان 13حركة يونيو وإنما مظلة لتحالف قوى 5نوفمبر أرادوا استخدامه بذات الطريقة التي جاؤا فيها بالقاضي الرئيس عبد الرحمن الإرياني ثم الحمدي وكما تصادمت أطماعهم مع الإرياني والحمدي تفجر صراعهم مع الرئيس علي عبد الله صالح بعد أكثر من ثلاثة عقود، لكن صراعهم مع الرئيس علي عبد الله صالح كان حول وراثة السلطة لا صراع مشروع وطني اجتماعي.
لاشك أن الرئيس علي عبد الله صالح كان سبتمبريا في وضعه الاجتماعي وفي مصلحته الشخصية والطبقية، فقد انخرط في الجيش عام 1958 وهو لا زال طفلا، ثم قامت الثورة السبتمبرية ليكون من القلة والندرة هو وأخوه محمد عبد الله صالح في سنحان الذين انحازوا للجمهورية في مواجهة الملكية، في حين أن أخاه في السلطة –وأخوة السلطة ليست أخوة “أشقاء” بل أخوة أمر وثروة-علي محسن الأحمر ومحمد إسماعيل أبو حورية ومشايخ سنحان انحازوا وقاتلوا مع الصف الملكي.
عمل علي عبد الله صالح بعد الثورة مرافقا مع عبدالله عبد السلام صبرة وكذلك مع مثنى الحضيري، وهما من ضباط الخلايا الفرعية لـ”تنظيم الضباط الأحرار” الذي على عاتقه تحمل مسئولية التخطيط والتنفيذ لثورة 26سبتمبر1962م.
كان مثنى الحضيري من الضباط الشباب الذين انتموا لحزب البعث قبل الثورة السبتمبرية، وكان في خلية المسئول عليها عبد العزيز المقالح، وفي مؤتمر عمران الذي شارك فيها حزب البعث كان مثنى الحضيري من أنشط البعثين سواء في المؤتمر أو على المستوى الحزبي، ويمتاز بقدرات حركية وثقافية تعكس سمات قائد في المستقبل، لكنه قُتِل في ظروف غامضة بُعَيْد مؤتمر عمران!
ظهر علي عبد الله صالح في حرب 1972م بين شطري اليمن، وشارك في موقع الراهدة بتعز، ثم كان بعدها ضابطا وقائدا لكتيبة الدبابات في معسكر خالد بلواء تعز، وبعد مشاركته القيادية والمعلوماتية في الإطاحة بقائد لواء تعز درهم أبو لحوم حل محله قائدا للواء، ومن قيادته للواء تعز ودوره في وأد حركة قائد المظلات عبد الله عبد العالم وأحداث الحجرية ومدينة التربة وبعد مقتل الرئيس أحمد حسين الغشمي في يونيو 1978م تحركت السعودية بمالها ونفوذها مع رضى ودعم أمريكي لتحشد جميع قوى خمر وأعضاء مجلس الشعب التأسيسي آنذاك وليكون التصويت في المجلس وانتخاب علي عبد الله صالح رئيسا للجمهورية العربية اليمنية في 17يوليو1978م.
ما ذهب إليه “عادل الأحمدي ” في كتابه هذا من أن حركة 15اكتوبر 1978م التي قام بها التنظيم الناصري في اليمن بأنها كانت ضد عبد الله الأصنج وزير الخارجية آنذاك ومحمد خميس رئيس جهاز الأمن الوطني حينها-تدليسا ومغالطة وإفراغا لحقيقة حركة15اكتوبر واهدافها.
لم تكن حركة 15اكتوبر كما يزعم المؤلف صراعا بين جناحين داخل السلطة وإنما حركة تغيير ثوري أرادت إسقاط تحالف القوى الحاكمة وبرمزيتها ومظلتها الممثلة بالرئيس علي عبد الله صالح. لهذا يقول الشيخ عبد الله بن حسين الحمر في مذكراته بأنهم؛ أي قوى خمر- كانوا يقتربون من الرئيس علي عبد الله صالح وتزداد ثقتهم به كلما خطا خطوة فعلية في ضرب قوى اليسار، من ناصريين وماركسيين. إنه اقتراب والتحام مصالح لا عواطف وبلاهة وجدانية!
صحيح أن المؤلف فيما تبناه سابقا أحال ذلك الطرح إلى المؤرخ المرحوم محمد حسين الفرح لكن الفكرة في جوهرها استهوته لأنها تفسير سلطوي يفرغ الحركات السياسية من حقيقتها، ويحيلها إلى أطماع داخل جناحي سلطة، وهذا لعمري من أقذر اساليب الاغتيالات للحركات السياسية بما يتجاوز إعدام وإخفاء جثامين شهداء حركة 15اكتوبر1978م.
لا شك أن اللغة البيانية التي تحلى بها هذا الكتاب وما يتميز به المؤلف من قدرات لغوية وبلاغية وفصاحة بيانية في توظيف الجمل ذات الإيقاع التقسيمي المتوازي والمتساوي في جرسه والتكرار الخطابي- قد جعلت محاججاته تتفيد وجدان العديد من القراء، ونجحت في خلق إقناع وتمرير لتلك التدليسات بسحر البيان وخيانات اللغة التخييلية. لكن تلك اللغة وإن بدت ناعمة إلاَّ أنها تظل عالقة بالأغاليط ومغمسة بدماء التاريخ الممهور بجثامين مخفية وأنين المعذبين الذين تمت محاصصة ثورتهم السبتمبرية ثروة وسلطة، ولم يبق لهم من متسع في وطن جثم على صدره تحالف قوى سلطاني ريعي سوى مساحات ضيقة داخل زنازين الأمن الوطني وفي وطن أصبح سجنا كبيرا أشد وطأة من السجن الصغير!
لا تسطيع لغة البيان مهما وظفت طيف لغتها الشعرية أن تسدل الستار عن حقائق ووقائع التاريخ.
كانت اللغة البيانية تظلل أيديولوجية هذا الكتاب بصياغات تصنع وجدانا مزيفا بغرض التحشيد لاستعادة المشترك الذي ميز تحالف قوى الحكم منذ 17يوليو 1978 ووصل إلى ذروته في حرب 1994؛ أي العودة إلى ما دعا إليه الرئيس علي عبد الله صالح بعد انتخابات 2006، وعبر عنه بصيغة “الاصطفاف الوطني” لكن غاب عن المؤلف رغم حديثه النظري عن “السنن” أن قوانين الاجتماع تقتضي حكما أن يتحول ما هو ثانوي في الصراع في مرحلة تاريخية إلى صراع رئيسي في مرحلة أخرى، فالتحالف الجبهوي بين قوى الحكم القبلي والعسكري والديني والتجاري بعد أن وصل إلى ذروة السلطة المطلقة بعد حرب 1994 واستطاع أن يزيح تناقضه الجوهري مع الحزب الاشتراكي اليمني وإخراجه من معادلة الشراكة في السلطة والثروة- انتقلت التناقضات الرئيسية إلى داخل بنية هذا التحالف، وليكون نتيجة ذلك الصراع بعد ان مرَّ بمراحل من الحرب الباردة في انتخابات 1997 وانتخابات 1999، و2003 ثم ساخنا لفظيا في انتخابات 2006 أن يتفجر بمواجهات عسكرية تحشد الشارع في مواجهة شارع وماكينة القتل في مواجهة ماكينة القتل، ومع تفكك وتفتت عرى تحالف قوى الحكم تفتت الوطن الذي كان يدار بتوافق محاصصات داخل المركز ليصبح كل طرف من أطراف قوى الحكم متفردا بجغرافية سلطة وثروة من جغرافيات الوطن المتشظي بتناقضات الاستبداد، والذي لم تتخلق فيه قوى سياسية بخطاب وطني واجتماعي يعيد لهذه الجزر المحتربة وحدتها وللإنسان الذي سحقه الجوع وماكينة الحرب أمنه واستقراره، لتتفجر الطاقات الإبداعية على أرضية الكفاءة وتكافؤ الفرص، لا على قاعدة المحاصصات وتوريث المناصب والثروات التي تمت مراكمتها من عرق ودم الشعب وقوته.