- كتب : محمد ناجي أحمد
كتاب(رحلتي في السجن) لـ(حمود محمد المخلافي “الحبشي”) والصادر أليكترونيا “بي دي اف” في ديسمبر 2020م، من الحجم الصغير، ويقع في (78)صفحة، يستهلها المؤلف بمقالة لرفيقه في الجبهة الوطنية وسكرتير منظمة الحزب الاشتراكي لمديرية شرعب تسعينيات القرن العشرين محمد مهيوب شريان(الأكسومي)، ومقدمتين لباسم الحاج سكرتير منظمة الحزب الاشتراكي بتعز وعبد السلام رزاز صالح، وجميعها تؤكد أهمية الكتابة عن تجربة الاعتقال، من زاوية إنسانية وحقوقية في آن.
يتناول الكتاب تجربة السجن في معتقلات الأمن الوطني في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين، بعد أن تم الاتفاق بين الرئيسين علي عبد الله صالح وعلي ناصر محمد في اتفاق تعز15-9-1981م، وبناء على ذلك الاتفاق تم توجيه قادة الجبهة الوطنية في المحافظات التنظيمية التابعة للجبهة أن تسلم أسلحتها الثقيلة وتسلم خرائط الألغام وتعمل على تمكين النظام في الجمهورية العربية اليمنية من مد نفوذه وسلطته على جميع المناطق، ومن تلك المناطق الجبهوية “محافظة مذيخرة” والتي تشمل مناطق شرعب والعدين والقفر وآنس ووصاب وريمة وعتمة الخ.
تتبدا صورة أحمد الآنسي مدير جهاز الأمن الوطني بتعز وصالح البدوي وعلي الأعوش والشاويش الخلقي بشكل إنساني، حتى أن أحمد الآنسي صرف لحمود الحبشي خمسة ألف ريال وكانت وقتها عام 1983م مبلغا كبيرا، وحين تم نقله إلى سجن البشائر بصنعاء منحه مبلغا آخر- مقارنة بصورة لا إنسانية لـ”علي السعيدي” نائب مدير جهاز الأمن الوطني، ممثل الإخوان المسلمين في الجهاز، ومحمد المقراني وعبد الهادي وراجح، ومشايخ ووجاهات المنطقة.
في هذه الرحلة تبدو “الجبهة الإسلامية” بضباطها ومخبريها وقوى المشيخ القبليين هم صقور النظام وجلاوزته.
يظهر علي السعيدي نائب مدير الأمن الوطني بتعز في هذه الرحلة وهو يعذب المعتقلين من كوادر الجبهة الوطنية الذين تم اعتقالهم بعد اتفاق المصالحة الوطنية.
والعجيب أن علي السعيدي في تسعينيات القرن العشرين كان إلى جانب إدارته الفعلية لجهاز الأمن السياسي مسئولا قياديا في منظمة حقوق الإنسان بتعز، التابعة للتجمع اليمني للإصلاح والمؤتمر الشعبي ، وقد تم تأسيس هذه المنظمة لتكون غطاء وحماية استباقية لانتهاكات جلاوزة الأمن الوطني/السياسي!
محمد المقراني واستمتاعه بالتعذيب بما يعكس اختلالا في النفس واضطرابا في العقل، حتى أنه كان يشرك زوجته بالاستماع إلى أنين المعذبين في أقبية الأمن الوطني.
ممرض السجن “الضراسي” والذي تخرج من دورة تمريض في الاتحاد السوفيتي في عهد الإمام أحمد، كان هو الطبيب المتاح لمعتقل الأمن الوطني بتعز. كان يقدم نفسه للمرضى بتعز بأنه طبيب، ومن أبنائه من كان طبيبا ومنهم من كان ضابطا في الأمن الوطني وقتل في عام 2015 أثناء تصفية ضباط الأمن الوطني التابعين لعلي عبد الله صالح. وقد قتل على يد جماعة أبو العباس.
كان تصفية كوادر الجبهة الوطنية الديمقراطية بمحافظة مذيخرة بعد اتفاق تعز بين الرئيسين(علي عبدالله صالح وعلي ناصر)ضحية تسوية بين نظامين قدم ضريبتها شباب الجبهة ،الذين تم تسليمهم لمخالب الإخوان المسلمين وجناحهم العسكري “الجبهة الإسلامية” وقوى المشيخ القبلي، وخذلان الحزب لهم!
مارست الزعامات المشيخية وقيادات الجبهة الإسلامية كل أشكال التعذيب والإخفاء والاعتقال والقتل لكوادر الجبهة بعد اتفاق تعز، وحين كان جناح داخل النظام يعمل على إصدار توجيهات بإطلاق قيادات للجبهة كونهم كانوا في مهمة حوار مع السلطة كانت قوى الجبهة الإسلامية والمشيخ يعترضون، ومن يتم أطلاقه يعملون على اعتقاله وإخفائه. “تجمعت الزعامات المشيخية والجماعات المختلفة معنا والذين باتوا أصدقاء حاليا، حاملين ملفاتهم ووضعوها أمام الآنسي في مكتبه قائلين: هذه تهمنا لهذا الذي تريدون الإفراج عنه وهذه جرائمه” ص36.
كان للمشيخ القبلي حقده المتكامل مع حقد الجبهة الإسلامية، سواء مشايخ العدين الكبار أو مشايخ شرعب، ومنهم : أمين علي محسن باشا، وحمود سرحان الزمر، وصلاح محمد عايض الحميري، ومحمد عبد القادر الفهيدي، وفيصل عبد القادر، حمود مقبل البحيري الخ، بما يتكامل مع قيادات الجبهة الإسلامية من عبد السلام كرمان ومحمد قحطان وعبد الجليل سعيد رئيس فرع تجمع الإصلاح لاحقا، وعبد الولي الشميري(الربيح) صاحب ألف ساعة حرب، الخ.
هناك بالتأكيد تجاوزات وخطايا وقعت فيها الجبهة الوطنية الديمقراطية، تكرر من بعض كوادرها ما مارسته منظمة المقاومين الثوريين في تعاملهم مع المزارعين على أنهم جميعا إقطاعيون، وهذا التقدير الخاطئ لطبيعة القوى الاجتماعية جعل الجبهة الوطنية الديمقراطية تسقط في عديد أخطاء، ومن حق الآخرين أن يطالبوا بعدالة انتقالية تنصف الجميع، لكن مشكلة الإخوان المسلمين وقوى المشيخ القبلي حين يلوحون بإخطاء الجبهويين يستخدمون ذلك لإسكات كل صوت مطالب بعدالة وإنصاف، أي يستخدمون الأخطاء للإرهاب النفسي بل والتهديد بغرض إلجام الصوت المطالب بالعدالة والإنصاف!
ما يتحدث عنه حمود محمد المخلافي(الحبشي) في رحلته في السجن هو حديث عن انتهاكات من تعذيب وخطف وقتل جاءت بعد عقد اتفاق المصالحة الوطنية مما يجعلها انتهاكات وجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا بقاعدة جبر الخطأ بالخطأ!
لا شك أن الجبهة الوطنية كتجربة أصبحت تاريخا بحاجة إلى تدوين بكل شفافية ونقد ذاتي، لمعرفة كوامن القصور الذاتي في الوعي وطبيعة القوى التي تمت مواجهتها، أين أصابت الجبهة وأين أخطأت. فطريق الكفاح المسلح، وتنميط المجتمع وفقا مفاهيم الإقطاع والبرجوازية الجبانة، والكادحين هذا التنميط استعدى قوى اجتماعية هي في وضعها الاجتماعي والسياسي والثقافي مع التغيير الثوري، كذلك الرهان في الكفاح المسلح على استراتيجية نظام شطري ومواجهة نظام شطري آخر جعل الجبهة تسقط ضحية العداء بين النظامين كما هي ضحية توافقهما!
كانت الاعتقالات تشمل الاب بدلا عن الابن أو الاخ بدلا عن أخيه، ويتم تصفية الخصومات والانتقامات الشخصية بحجة مواجهة “عناصر التخريب” اختلط الاعتقال والتعذيب والاختطاف والإخفاء بتفيد الأسلحة الشخصية والجنابي والمصوغات الذهبية الشخصية.
كان المثقف والفلاح والحرفي والعامل والجندي صيدا لقوى الأمن الوطني، فالأمن الوطني كان انعكاسا لقوى تحالف المشيخ القبلي والديني والعسكري والتجاري، وكانت أداة عنف النظام وذراعه الإرهابية تتمثل بهذا الجهاز، الذي تحاصصت هذه القوى مواقعه القيادية كما تحاصصت جلاوزته وجلاديه “في تسابق محموم بين المخبرين والمشايخ والأعوان وبدا أن النظام لم يمتلك سلطته، فقد أصبحت الجبهة الإسلامية هي الأكثر سيطرة وتوجيه لسياسات النظام وهي المتحكمة في خطواته”ص47.
وككل نظام قمعي تسلطي فقد استخدم ضعفاء النفوس في الجبهة الوطنية وجندهم ضد رفاقهم، وكانوا ” أكثر تطرفا في أدائهم”ص48.
“الغريب والمضحك في نفس الوقت أن من بين هؤلاء العتاولة المجندين مع المشايخ في نطاق الجبهة الإسلامية من كان من رفاقنا لكن لظروفه التي تخصه أصبح مجندا مع القبضايات، وكانوا أكثر تطرفا من الذين عشنا معهم في صراعات- ربما لإثبات طهارتهم أمام أرباب نعمتهم.”ص76.
تصور رحلة (الحبشي) حلقات التعذيب اليومية داخل أقبية فرن الأمن الوطني”…يستدعي الجلاد في كل ليلة من عشرة إلى خمسة عشر معتقلا للتحقيق معهم دفعة واحدة… إنها وليمة ثابتة، يقوم بتعليق كل السجناء في مسلخه، ثم تبدأ عملية الضرب والجلد الجماعي والتندر على المعتقلين…هو تعذيب من أجل التعذيب، وليس من أجل المعلومات، عملية تأديب حتى لا يتجرأ يمني على رفع صوته في وجه النظام القروسطي. تخيل مجمع من البشر بجلود مسلوخة…الكل يئن ويتألم، والكل يحاول التخفيف من آلام الآخر…”ص49.
“رجب قحطان” ضابط في الأمن الوطني الذي قام بتهشيم ساقي “رزاز خالد الكباش” وتعذيبه أمام خصومه، في بداية تسعينيات القرن العشرين كان ناشطا ضمن منظمة أشيد ويجمع ممثلي القطاعات الطلابية الناصرية والاشتراكية في بيته من أجل توسيع وتمثيل أشيد للشباب وطلبة كلية التربية بتعز!
الشيخ محمد عبد القادر الفهيدي الذي قام بحسب صاحب الرحلة بتعذيب “محمد بن محمد الصعيري” الذي تم إعداده من قبل “الجبهة الإسلامية” ليكون شاهدا في قضايا قتل ضد(حمود الحبشي) “…هذا السجين تم اعتقاله في القرية وفي منزل الشيخ محمد عبد القادر الفهيدي أخضع لتعذيب يفوق الخيال لإجباره على حفظ ما تم تلقينه كشهادة يواجهني بها…كان جسد الشاهد محمد بن محمد الصعيري مشوها ومحروقا وجهه وصدره، وساقاه، وقدميه لا يقويان على الوقوف عليهما” كان يجبر على الوقوف حافي القدمين فوق عدة الحراثة بعد تسخينها بالنار، ويقومون بسلقه بالماء الساخن.ص57.
الشيخ محمد عبد القادر الفهيدي الذي كان بيته مسلخا لكوادر الجبهة بحسب كتاب حمود الحبشي- هو نفسه مرشح الحزب الاشتراكي لانتخابات 1993م. يومها كان العديد من المشايخ الذين يقبع في سجونهم الفلاحون وعلى أقدامهم القيود مرشحين باسم الحزب الاشتراكي اليمني، ومنهم الشيخ صادق الضباب!
وهكذا ينتقل الحزب الاشتراكي من تطرف في العداء لبعض القوى الاجتماعية إلى تطرف فيما يظنه احتواء لها!
استسلمت الجبهة لطلبات النظام في تسليم الأسلحة ونزع الألغام وعودة نازحيها، وحددت ممثليها بالحوار فكانت النتيجة هو الاعتقال والاختطاف والقتل والإخفاء، بل إن نظام جمهورية اليمن الديمقراطية قام بإعادة عشرات الشباب إلى نظام الجمهورية العربية اليمنية فكانت زنازين الأمن الوطني موئلهم!
“بدلا من التزام النظام بالمصالحة “امتلأت السجون الرسمية للنظام بخيرة أبناء الوطن، ليس ذلك فحسب بل أطلق العنان لكل قيادات الجبهة الإسلامية من المشايخ والوجاهات لتتحول منازلهم إلى مراكز اعتقال وتعذيب لكل من أرادوا الانتقام منه، حتى أولئك الذين يتم الإفراج عنهم من سجون الأمن الوطني كان يتم اعتقالهم مجددا من قبل مراكز القوى هذه المنتشرة في المنطقة تحت إشراف إدارات أمن المديريات ومندوبي الأمن الوطني الذين كانوا جميعهم من عناصر الجبهة الإسلامية، ففي مديرية الرونة كان مدير الأمن عبد الجليل سعيد رئيس فرع تجمع الإصلاح لاحقا، وفي مديرية مقبنة كان مدير أمنها عبد الولي الربيح صاحب كتاب ألف ساعة حرب…لقد أصبحت قوافل التعذيب المتنقلة تجوب المنطقة من مكان إلى آخر مع وجود مراكز ثابتة للاعتقال والتعذيب، إنها عمليات قهر وإخضاع الرعايا مجددا لسطوة الإقطاعيات…”ص56.
لقد كان مؤلما لصاحب الرحلة أن يجد شبابا من كوادر الجبهة الوطنية تم تسليمهم من عدن إلى تعز ليتم إيداعهم “فرن الأمن الوطني” بما يعني أن “اتفاق تعز” بين الرئيسين لم يكن مجرد خذلان للجبهة الوطنية وفرع الحزب بالشمال وإنما تصفية للجبهة وضربة قاصمة للحزب، فعدد من قتلوا ومن تم إخفاءهم ومن اعتقلوا أكثر بكثير ممن قتلوا أو اعتقلوا أثناء المواجهة المسلحة مع النظام قبل ما عرف بـ” المصالحة الوطنية”!
وككل نظام تسلطي لم يكتف بالقمع والقتل والإخفاء بل استثمر ضعف الثقة داخل تكوين الجبهة والحزب فعزز من حالة الشك والتخوين بين الكوادر، مما جعل المعتقل الكبير أشد وطأة من معتقل الفرن!
تحمل صاحب الرحلة قسوة الاعتقال وما يمثله من تعذيب نفسي سواء في سجن الأمن الوطني بتعز أو سجن البشائر بصنعاء لكن “قساوة السجن يسهل تحملها فقد أصبحت أمرا واقعا لكن المؤلم والمفزع موقف الرفاق وطعناتهم الأكثر إيلاما من سياط الجلاد، عندما تكون بين مخالب الكلب-ولا أقول الأسد- وهناك من يشكك في وطنيَّتك والتزامك الأخلاقي بقضية تؤمن بها فذلك هو التعذيب الحقيقي”ص61.
في قصة رمزية يروي حمود محمد المخلافي(حمود الحبشي) حكاية ذات دلالة، وهي أنه أثناء ما كانوا في الجبهة كان سكرتير أول محافظة مذيخرة الشهيد ناجي محسن-والتي تضم شرعب والعدين والقفر ووصاب وعتمة وريمة وآنس- يرد على رسائل مع قيادة الجبهة والحزب فاختلف مع حمود محمد المخلافي حول الثورة هل يشيروا لها باسم الموصول المذكر “الذي” أم باسم الموصول المؤنث “التي” أي هل الثورة مذكر أم مؤنث، وحين التقاه بعد الوحدة في “جولد مور” بعدن سأله المخلافي هل مازالت الثورة ذكرا؟ وانتهى لقاؤهما بالعناق والضحك الشديد، وكأنه ضحك تراجيدي لمسيرة صارت من التاريخ!