- كتب: محمد ناجي أحمد
يصف صاحب “ذاكرة وطن” موقف “حيدر أبو بكر العطاس” بأنه ظل يرقب كفة الصراع لمن ستؤول، وحين أعطاه السوفيت صورة واضحة حدد موقفه يوم الأحد 18يناير 1986م، فمال إلى خصوم علي ناصر، وبدأ بأول قرار اتخذه مع وزير خارجيته الدكتور عبد العزيز الدالي بـ”عزل القائم بأعمال السفارة في موسكو، عبد الله الحنكي، واستبدل ب” سيف صائل”، القريب الصلة بالطرف الآخر في الصراع، الذي كان يدرس في موسكو، وليس له علاقة بالبعثة الدبلوماسية. كان هذا مؤشر على أن العطاس تلقى معلومات مؤكدة من السوفيت ومن مصادر أخرى عديدة عن أن كفة الميزان العسكري قد مالت إلى الطرف الآخر، وربما تلقى منها الوعود بالحصول على منصب ” الرئيس”.ص485.
فوجه حيدر العطاس رسالة إلى ياسر عرفات وإلى الرئيس علي عبد الله صالح يطلب منهما “عدم التدخل”.
وعن موقف الدكتور ياسين سعيد نعمان يقول صاحب “ذاكرة وطن” بأنه كان أثناء الأحداث في دمشق، ونقل رسالة إلى الرئيس حافظ السد ضمن الوفد الذي أرسله علي ناصر برئاسة “أنيس حسن يحيى” عضو المكتب السياسي، ليشرح للمسؤولين فيها طبيعة الأحداث ووجهة نظر الرئيس علي ناصر ” اما ما حدث بعد ذلك، ففريد من نوعه ولم يتوقعه أحد، إذ ان الدكتور ياسين سعيد نعمان ذهب مرة أخرى إلى مقابلة المسؤولين السوريين الذين قابلهم بالأمس باسمي، لكن هذه المرة قابلهم ممثلا عن الطرف الآخر بعد أن اختلفت الأمور ومالت الكفة العسكرية إلى مصلحتهم، فمال معها الدكتور ياسين استنادا إلى حساباته الخاصة.”ص486.
كذلك حديثه عن موقف محمد سعيد عبد الله وابو بكر بن حسينون اللذين قدما أنفسهما كمحايدين، لكنهما كانا ضمن الطرف الآخر، بل إن أبو بكر بن حسينون وفقا لرواية علي ناصر كان يتصل بكل طرف على حدة طالبا منهم أن يحسموا الموقف بسرعة!
ما يرويه علي ناصر عن تحول رجال الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية كلها تصب في تعزيز ما قرره سابقا في كتابه من أن الصراع لم يكن أيديولوجيا حول مفاهيم ومواقف متضادة، بين يسار طفولي ويسار انتهازي، وطغمة وزمرة، وإنما صراع بوصلته المصالح الشخصية المتمحورة في السلطة وإغراءاتها وغوايتها ودمويتها.
يقلل علي ناصر محمد من عدد ضحايا مجزرة 13يناير ويرى أن الأرقام التي طرحت على الإعلام مبالغ بها، كان الغرض منها الاستفادة من الإعانات لأسر الشهداء لتذهب إلى جيوب المنتفعين من تضخيم تلك الأرقام، فقد بلغت كشوفات الشهداء من طرف علي ناصر عشرة ألف ناهيك عن أرقام الطرف الثاني، لكن “تأكد لنا أن الرقم لا يتجاوز (950) وشهداء الطرف الآخر لا يزيد عن ذلك.ص487.
من الواضح أن ضحايا جريمة 13يناير أصبحت مجرد أرقام يتم التهوين من أعدادها مما يعني أن المسؤولية الأخلاقية والقيمية لا زالت ترى في تلك الكارثة نتيجة صراع وليست جريمة ينبغي الاعتراف والمكاشفة والندم على الوصول إليها.
إن التهوين من كارثة 13يناير لا يعني سوى أن الصراع مستمر في الذاكرة كما كان مستمرا في سلطة الأمر الواقع، بمقابل ذلك يتم الحديث عن 100000ألف نازح!
كان علي ناصر واعيا بصعوبة البقاء في عدن، فأي حصار لها يجعل المتمترس فيها ينتهي مصيره بالسجن او القتل، هكذا كان مصير قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف وسالمين، فالمدينة ماؤها من خارج عدن، وانقطاع الماء والكهرباء يضيق الخناق على من بداخلها.
” ويبدو ان هذا الوضع الذي تحدثنا عنه هو الذي كان الدافع لنا للانتقال إلى خارج عدن. والأمر نفسه حدث أيضا في حرب 1994م، حيث انتقل علي سالم البيض إلى حضرموت”ص487.
لجنة التحقيق في مقتل فتاح:
تحت عنوان : كيف قُتِل عبد الفتاح إسماعيل؟ كتب علي ناصر أنه في العاشر من فبراير 1986 أصدر المكتب السياسي روايته عن مقتل عبد الفتاح إسماعيل بأنه استشهد مساء يوم 13يناير 1986 بفعل احتراق المدرعة التي جاءت لإنقاذه والتي أقلته من مقر اللجنة المركزية. وقال البيان إن وابلا من نيران القذائف انهال على المدرعة التي كانت تقله، وجاء في رواية لجنة التحقيق برئاسة صالح منصر السيلي أن عبد الفتاح لقي مصرعه أمام القاعدة البحرية التي تبعد عن مبنى اللجنة المركزية نحو 300 متر وذلك في يوم 13يناير 1986 عندما ضُربت الدبابة التي أخرجته من قاعة اجتماعات المكتب السياسي في مبنى اللجنة المركزية بقذائف (آر. بي.جي).ص505.
ما روي على لسان السفير السوفيتي بعدن من ان عبد الفتاح إسماعيل ظل يتصل بالسفارة خلال أيام 13-17يناير، وما روته زوجة عبد الفتاح إسماعيل أنه كان يتحدث معها خلال الأيام الثلاثة الأولى نقض تقرير اللجنة التي ترأسها السيلي وبيان المكتب السياسي…
يكتب “علي الصراف” في كتابه “اليمن الجنوبي…” أنه في اليوم الخامس، وبعد جلاء الموقف العسكري وتقهقر قوات الرئيس وانسحاب قسم كبير منها إلى “أبين” معقل علي ناصر محمد ومسقط رأسه، اقتيد عبدالفتاح إسماعيل من منزل سعيد صالح مخفوراً بحراسة قريب لهذا الأخير يدعى “جوهر” تولى قتله وإحراق جثته ودفن بقاياها في مكان لا يبعد كثيراً عن منزل سعيد صالح الذي سيتقلد واحداً من أهم المناصب الحكومية: وزير أمن الدولة” (ص354).
أدرك “جوهر” خطورة وفداحة ما صنعه، فبحسب ما ينقله علي الصراف في كتابه هذا، فقد انتابته “حمى الضمير، فظل يردد لأيام متواصلة عبارة واحدة، هي: أنا قتلت الشعب، لقد قتلت الشعب”. أما سعيد صالح الذي قال إن عبدالفتاح إسماعيل خرج من منزله بمدرعة و “لم يعد”، فقد قَتَل جوهر مدعياً أنه انتحر بعد أن أصيب بالجنون، ثم بعد سنوات، أي في حزيران 1991، قُتِل سعيد صالح في “حادث مؤسف”، مما يعني أن ثمة واحداً على الأقل من “القيادة الجماعية” الجديدة كان يعرف من قتل عبدالفتاح إسماعيل، وأين دفنت بقاياه، وهو الذي سوف يتدبر بعد عدة سنوات (في حزيران 1991) قتل سعيد صالح في “حادث مؤسف” (ص354)- “اليمن الجنوبي- الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة” -علي الصراف- دار رياض الريس للكتب والنشر-الطبعة الأولى: أبريل1992.
كان الحكيم جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب قد نبه قبل الكارثة إلى أن عبد الفتاح إسماعيل سيكون ضحية الطرف المنتصر فكل طرف يراه عقبة أمام طموحاته في السلطة، وذلك ما حدث بالضبط حين تمت تصفيته ممن ظنَّ انهم حلفاؤه.
أختتم وقفاتي النقدية بتعليق للصديق الأديب والكاتب منصور ثابت(منصور السروري) يقول فيه معقبا في الحلقة الرابعة :
“مادة رائعة…. لكن ثمة ملاحظات لا تسعفني صحتي ناهيك عن انشغالات أخرى لإيرادها هنا….منها قولك …أنه تم إزاحة عبد القادر سعيد، وعبد الحافظ قائد من قيادة الحزب الديموقراطي الثوري اليمني….فقد بقيا الأول عبد القادر سعيد عضو الأمانة العامة سكرتير الدائرة السياسية للحزب حتى وفاته، وكذا عبد الحافظ كان سكرتير الدائرة التنظيمية وعضو الأمانة العامة للحزب حتى تاريخ توحيد فصائل اليسار في اليمن الشمالي في إطار حزب الوحدة الشعبية.
جميل أنك اعتمدت المنهجية في الاستدلالات بجل كتاباتك غير أنك تقدم في بعض الأحيان على تقديم استنتاجات غير موفقة أو غير دقيقة.
أتمنى أن أجد الوقت والنفسية في مطارحة بعض الأمور معك …. خاصةً وأنها تندرج تحت قضايا تاريخية.
إن إعادة كتابة التاريخ عملية تحتاج أولا وقبل كل شئ إلى التجرد من الأيديولوجية الفكرية التي إن وقع تحت تأثيرها المؤرخ غلب على كتاباته الاسلوب الاستنتاجي.
لا يوجد في كتابة التاريخ استنتاجات الا في حالات نادرة جدا خاصة إذا كنت تكتب تاريخ لايزال بعضا من صناعه على قيد الحياة.
أتمنى من الأخ الكاتب المبدع محمد ناجي أحمد أن يركز على قراءة المرحلة الراهنة مع أن له فيها باعاً معتبراً لكن مع ذلك أن يركز عليه أكثر لأنه تاريخ يُرى ويعيش كل تناقضاته ومفارقاته.
والعناية بهذا الظرف ستعطي كتاباته اهتماما أفضل من إعادة كتابة تاريخ العقود الخمسة الماضية. “انتهى.
أردت من إشارتي إلى إزاحة عبد القادر سعيد وعبد الحافظ قائد في الحزب الديمقراطي الثوري اليمني إزاحة طريقهم السلمي في الكفاح لصالح نهج الكفاح المسلح على الطريقة الفيتنامية الذي انتهجه سلطان أحمد عمر وجار الله عمر والآخرون.
وأما أن الاهتمام بتاريخ الحاضر أولى من تاريخ العقود الماضية فإنني أرى أن العقل السياسي في اليمن هو نتاج خمسة قرون لا عقود فحسب، ومن هنا فإن ما يطفو من الجليد بنيته هي تلك القرون من التاريخ السياسي في اليمن.
لست مع الكاتب والصديق العزيز منصور فيما يتعلق بوصفه للاستنتاج بأنه يصدر عن موقف أيديولوجي، بل أراه موقفا نقديا منطلقة وهدفه الحاضر، فالوعي النقدي للتاريخ هو وعي بالحاضر وليس حكيا وسردا لما مضى من الأحداث والوقائع والشخصيات والأمكنة.
إن ما قيل عن تهميش لعبد القادر سعيد وعبد الحافظ قائد في صناعة القرار داخل الحزب الديمقراطي الثوري ذكره علي ناصر محمد في كتابه، ورواه يحيى منصور أبو اصبع على لسان الرئيس إبراهيم الحمدي حين ذهب إليه يحيى أبو اصبع ليحذره من خطة لاغتياله يدبرها نائبه أحمد حسين الغشمي، فكان رد الحمدي في سياق المحاججة والغضب، أين ذهبتم بعبد القادر سعيد وعبد الحافظ قائد الخ. وذلك في الحلقات التي نشرها يحيى منصور أبو اصبع عن عبدالوارث عبد الكريم والغشمي في (28) حلقة ظل يوالي نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ليس هناك كتابة عند درجة الصفر، فما نكتبه هو موقف وانحياز وليس وصفا مجردا وحكايات نتلوها ترفا قبل النوم أو من أجل التنويم.
إن كتاب علي ناصر محمد يتناول تاريخا حيا والعديد من رجالاته لا زالوا أحياء ورؤيتي للعقل السياسي في اليمن أن رأس جليده الطافي متجذر في خمسة قرون لا في خمسة عقود فحسب.
من موقف وموقع الناقد أكتب ولست مؤرخا بالمعنى التقني، مبعث تناولاتي حين أبحر مع الأحداث والشخصيات والأمكنة بامتداداتها الزمنية المتحركة والمتجاورة والمتزامنة في المكان هو الاشتغال على الحاضر، بما في ذلك تناولاتي للخطاب الروائي في اليمن، ومن منظور النقد والناقد يكون تناولي للنص سواء كان نصا تاريخيا أو أدبيا أو غيره من نصوص المعرفة، بما في ذلك نقدي للواقع المعاش بفكره اليومي.