- سناء مبارك
سألتُ ذات مرة رئيستي في الوحدة، وكنت معجبة جدًا بسعة معلوماتها وبحضورها الدائم المذهل، تظنها للوهلة الأولى لا تفعل شيئًا سوى القراءة في الطب، ثم تفاجأت بأنها تشترك في عدد لا محدود من النشاطات الرياضية والمجتمعية وتعيش حياة موازية ممتعة أيضًا. تعجبتُ، وسألتها متى تجد الوقت لتجديد معلوماتها بهذا الشكل فأخبرتني بسرها الصغير، “٣٠ دقيقة في اليوم فقط” كل يوم دون توقف ومهما حدث ومهما كنتِ متعبة أو ملتهية، في أوقات العمل كما في الإجازات، وعلى مدار السنة وبمرور السنوات، يجب أن تقرأي كل يوم بحافز ذاتي لا لأجل الامتحانات قالت وهي تضحك “مثل أن تفرش أسنانك كل يوم. هل يمكن أن تفرشها قبل موعدك مع طبيب الأسنان فقط؟”
“القليل الدائم خير من الكثير المنقطع”
فظيعة هذه الفكرة في فعاليتها، أن تتعلم كل يوم القليل من شيء تحبه وهذه المعرفة التراكمية قد تمنحك بعد فترة قصرت أم طالت مهارة جديدة، براعة إضافية في مجالك، أو تنمية فائقة لموهبة مدفونة. أخبرني أحدهم ذات يوم عن طريقته في تعلّم اللغة الألمانية، قال بأنه كان يوميًا في الصباح يترجم مقالًا في الصحيفة، كل يوم وعلى مدى أربع سنوات، قال في البداية كنت أترجم كل شيء تقريبًا ثم صارت حاجتي للترجمة أقل فأقل ثم أصبحت قراءة الجريدة كلها أسهل من ارتشاف فنجان القهوة.
فكرة مشابهة عرضها آخر لا أتذكر اسمه علي منصة تيدكس، قال إنه وفي طريقه للعمل كل يوم كان يشغّل مواد تعليمية في مذياع السيارة للغة الفرنسية، بعد خمس سنوات فقط أصبح قادرًا على التحدث بها وبطلاقة.
قدرة العقل البشري على التعلّم عجيبة، فإذا تخيلنا العقل البشري واحدًا من أجهزتنا الذكية التي تحتفظ بالذاكرة على شكل جيجا بايتات، فإن السعة الكلية لجهازك الرائع الذي تحمله في رأسك هي ما يقارب ٢.٥ مليون جيجابايت، أي أنك تحتاج لتحميل فيلم مدته ٣٠٠ عام حتى تمتلئ هذه الذاكرة ذات السعة الرهيبة.
لكن ادمغتنا على خلاف الأجهزة الذكية تحتاج للتدريب حتى تستطيع العمل بقدرة كاملة، ربما سمعتم أن “الدماغ عضلة”. تمامًا مثل العضلات الأخرى ، عليك تدريب دماغك كل يوم عن طريق تعلم أشياء جديدة. هناك أبحاث مستفيضة تُظهر أن التعلم يساعد في بناء روابط الخلايا العصبية ويمكنه درء أمراض مثل مرض باركنسون.
“التعلم يجعلنا أكثر سعادة”
يرتبط جزء VTA من الدماغ بمراكز التعلم والذاكرة ، لكنه يشتهر باسم “مركز التجديد” لأنه يضيء عند تعرضه لمحفزات جديدة. أنت تختبر اندفاعًا من الدوبامين، في كل مرة تتعلم فيها شيئًا جديدًا، أو تبرع في أمر تدربت عليه، أو أجدت عمل لم يسبق لك فعله.
إليكم ما يحدث:
تتعلم شيئًا جديدًا، يتم تنشيط “مركز التجديد” في دماغك، تحصل على اندفاع من الدوبامين، يحفزك الدوبامين على متابعة الشيء الجديد. وهكذا تنشأ علاقة شغف بينك وبين ما تريد تعلّمه. أي أن الدوبامين وهو يساعدك على التعليم يمنحك “بونس” إضافي من السعادة.
“أنا مستعد دائمًا للتعلم، على الرغم من أنني لا أحب دائمًا أن أدرس”. تشرشل.
هذه العبارة تمثلني بالكامل، من المصطلحات التي يتم الخلط بينها في لغتنا الفرق بين التعلم والدراسة، learning Vs studying. فالدراسة تعني القراءة أو حفظ الحقائق أو الذهاب إلى المدرسة للتعرف على موضوع ما، واستذكاره والحصول على علاماته، أما التعلم فيعني اكتساب المعرفة أو المهارة من خلال البحث أو الممارسة أو التجربة. والواقع الذي نعايشه يقول أن ليس كل من نجحوا في الدراسة يمكنهم النجاح في تحويل الدراسة إلى أسلوب تعليم مستمر. وليس كل من حصدوا العلامات والدرجات استطاعوا تحويل مجالاتهم العملية إلى مصدر شغف، الكثيرون وقعوا في مصيدة الوظيفة وعلقوا في شرك الروتين.
لهذا يتحول الدوام إلى كابوس عند الكثيرين ممن وجدوا أنفسهم في مكان لايحبونه أو في مجال لم يعد يشعرهم بالفضول أو التحدي، ويتبدّل الحال في المدارس والجامعات بعد أقل من شهر من تراكم المنهج، وتتحول فترة الامتحانات إلى كارثة حقيقية، ربما لأننا نقرأ المنهج على أنه فرض واجب، ولا نعتبره فرصة لإثراء المعرفة.