- كتب: محمد ناجي أحمد
تأتي الذاكرة هنا امتدادا للصراع الذي كان يجري في اليمن الديمقراطية، فالقدرة التي أدار فيها علي ناصر طموح صعوده واستلامه لزمام السلطة المطلقة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يديرها هنا سرديا وبذات الدهاء، مازجا بين الحقائق وإعادة رسم الشخصيات بما يجعله المنتصر على أرض السلطة والمنتصر على أرضية التاريخ.
هي معركة الذاكرة التي تزيح الخصوم نحو دائرة النسيان، ثم تعيد رسمهم من موقع السردية المنتصرة، التي تزعم سموا أخلاقيا من منطلق الذاكرة الطهرانية.
يصف الرئيس عبد الرحمن الإرياني الشيخ ناجي بن علي الغادر بأنه “عاش غادرا ومات مغدورا”ص240.،والملفت للنظر أن جميع من اشتركوا في خيانة علي عبد المغني في صرواح وقتله في كمين ، حين خرج ليدافع عن الثورة السبتمبرية قد قتلوا في كمين عام 1972م!.
يشير علي ناصر في كتابه هذا أن التخلص من المشايخ عام 1972م بعد استدراجهم للجنوب كان باتفاق قيادة النظامين في صنعاء وعدن، إلاَّ أن الضغوط مورست “على القاضي الإرياني ورئيس الوزراء محسن العيني، مما دفعهما إلى استغلال مقتل المشايخ كقميص عثمان، في شن الحرب على اليمن الديمقراطية عام 1972م.”ص241.
لكن مذكرات القاضي عبد الرحمن الإرياني تنفي وجود اتفاق وإن كان مقتل المشايخ كان محل رضى أركان النظام في الجمهورية العربية اليمنية، وهو ما أكده محسن العيني في كتابه “خمسون عاما في الرمال المتحركة”.
أقر مجلس الشورى شن حرب على الجنوب والتوحيد بالقوة، وقد قام عبد الله الراعي بإرسال “شريط كاسيت مسجل يحوي محضر اجتماع مجلس الشورى المنعقد في صنعاء الذي يؤكد فعلا أن صنعاء تُعد لشن حرب على الجنوب، وأن القرار بذلك قد اتخذه مجلس الشورى، والذريعة لذلك ” تحقيق الوحدة بأي ثمن، أي بالسلم أو بالحرب” وقد أرسل الشريط المناضل “عبد الله الراعي” عن طريق الملحق العسكري العراقي ” مصطفى القيسي” الذي سلمه لعلي ناصر محمد.
كانت “منظمة المقاومين الثوريين” التي أُنشئت في الشمال جناحا مسلحا للتنظيم الديمقراطي الثوري- قد قامت بالعديد من العمليات العسكرية في ذكرى ثورة 26سبتمبر 1972م، بإشراف من صالح مصلح قاسم، لكن سالم ربيع علي لم يكن موافقا على هذه العمليات، وقال لصالح مصلح قاسم عندما علم بالأمر “مبروك يا صالح على هذا الأمر الذي قمت به. لكني أقول لك إنه لا يخدم إلاَّ أعداء الشعب اليمني ويهدد الأمن والاستقرار في اليمن شمالا وجنوبا.” ص261.
هذا هو النهج المسلح الذي رفضه عبد القادر سعيد وعبد الحافظ قايد فتمت إزاحتهما من قيادة الحزب الديمقراطي الثوري اليمني!
كان صالح مصلح قاسم بحسب ما يصفه علي ناصر في هذا الكتاب مؤمنا بالوحدة وعاشقا لها. “لكن لم يكن هناك سقف يحكم توازن هذا الإيمان أو العشق. ففي سبيل تحقيق “المبدأ”، لم يكن يتوانى عن استخدام أية “وسيلة”. ولعله كان يؤمن بأن إسقاط صنعاء أفضل الطرق وأسهلها لتحقيق الوحدة.”
ومن أجل الهدف الوحدوي الذي يؤمن به فقد أقنع علي سالم البيض بإرسال الحاج تفاريش (مهدي أحمد صالح) بشنطة ملغمة، وبعدها تتحرك قوات العمالقة والصاعقة والمظلات من داخل الشمال لإسقاط حكم الغشمي وتحقيق الوحدة، وحين أدى الانفجار إلى تضييق الخناق على سالم ربيع علي ذهب صالح مصالح مطالبا باستقالة سالمين، وطالب بوضع حراسة عليه، وقد وافق سالمين على تقديم الاستقالة، وحين كان يجهز نفسه للسفر منفيا إلى أثيوبيا تمت المواجهة بالسلاح بين حراسته وأعضاء اللجنة المركزية المجتمعين في معاشيق، وانتهت تلك المحطة من الصراع بتسليم سالمين نفسه بضمانة خطية من علي عنتر، ليجتمع المكتب السياسي الذي حضره ” عبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد، وأنيس حسن يحيى، وعلي باذيب، وصالح مصالح، وعلي سالم البيض، وعلي عنتر، وصالح أبو بكر بن حسينون، وراشد محمد ثابت، ومحمد سعيد عبد الله، (محسن) وعبد العزيز عبد الولي. واقر المجتمعون إعدامه، باستثناء بن حسينون الذي اقترح سجنه.” ص360.
قبل أن يلجأ صالح مصالح لخطة اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي كان قد التقى بالغشمي في بيته بـ”وادي ظهر” واتفق مع الغشمي على التخلص من قوى المشيخ وذلك بتلغيم مجلس الشعب، وكذلك التخلص من بعض معارضي الجنوب، وقد نفذ الغشمي ما يتعلق بالتخلص من بعض المعارضين الجنوبيين في ذات البيت الذي تم فيه اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، وماطل في موضوع التخلص من قوى المشيخ بتفجير مجلس الشعب.
في ذلك اللقاء الذي استمر لمدة تسع ساعات كان كل منهما خائفا وحذرا من الثاني حتى أنهما لم يذهبا إلى الحمام، فصالح مصلح كان يتوقع من الغشمي أن يضع له سما في الماء أو القات إن هو ذهب إلى الحمام والغشمي كان يخشى أن يترك المجلس فيدبر له صالح مصالح مكيدة لقتله!
وقد ترتب على اغتيال أحمد حسين الغشمي أن جاء إلى الرئاسة علي عبد الله صالح، الذي يصفه علي ناصر محمد بأنه رجل السعودية والولايات المتحدة. يقول “من المعروف أن الأمريكان وآل سعود هم الذين جاؤوا بعلي عبد الله صالح إلى الحكم. أذكر حديثا بيني وبينه عن كيفية وصوله إلى السلطة في 17تموز/ يوليو عام 1978م، إذ قال إنه جاء بمسدسه والمال السعودي والدعم الأمريكي، وهذا ما أكده الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في مذكراته، ولهذا كان من غير المسموح إسقاط النظام في صنعاء”ص368.
بل إن علي ناصر محمد في موضع آخر من الكتاب وهو يحكي قصة (عصابة دهمس) التي قادها علي يسلم باعوضة، بعد ان قامت المخابرات الأمريكية في السعودية للقيام بتدمير مصفاة عدن وخزاناتها وتدمير محطات الكهربا والمحطات الحيوية، رغم المصالحة التي تمت عام 1981 في اتفاق تعز بين الرئيسين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض. وحين التقى علي ناصر بعلي يسلم باعوضة في أبو ظبي ودمشق أخبره بهذه الحكاية.
بسبب انزعاج الأمير نايف من تنفيذ هذه العملية دون علمه فقد أرسلت المخابرات الأمريكية بعلي يسلم باعوضة إلى صنعاء للإقامة فيها تحت رعاية رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش وحمايته، وهو شريكه في هذه العملية التي جرت لمصلحة الرئيس علي عبد الله صالح، الذي كان على صلة بوكالة المخابرات الأمريكية” ص273.
ويروي الشيخ يحيى منصور أبو اصبع العضو القيادي في الحزب الديمقراطي الثوري والحزب الاشتراكي اليمني، في مذكراته عن عبد الوارث عبد الكريم، والتي نشرها بمواقع التواصل الاجتماعي، وبلغ عددها 28حلقة ،وبخصوص اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي يقول بأن الوزير محمد سعيد العطار قد أسرّ لمحمد عبد الرحمن الرباعي أن من فجر مكتب الرئيس الغشمي هم فريق مكتب الغشمي برئاسة محمد خميس وبتوجيه سعودي.
وعن وصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى الرئاسة فيروي في تلك الحلقات أن قيادة”اللقاء الوطني” الذي ضم العديد من القوى الوطنية كانت قد اتفقت مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر والقاضي عبد الكريم العرشي على أن يكون الحكم مدنيا، وأن الشيخ عبد الله قد أعطاهم مفتاح المخزن الذي فيه المطبعة كي يصدروا البيانات المنددة للتدخل السعودي، وكان الشيخ عبد الله رافضا لتسلم علي عبد الله صالح الحكم ويسميه “الشاويش” لكن زيارة الأمير تركي الفيصل آل سعود، وقبلها كمال أدهم، ثم استدعاء الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وغيره من المشايخ إلى السعودية كل ذلك غير القناعات بما فيها تراجع القاضي عبد الكريم العرشي عن موقفه المتصلب فتنازل عن الرئاسة، واتضح أن موقف المشايخ الرافض كان غرضه الحصول على أكبر قدر من المال السعودي، وكذلك تغير موقف أحمد جابر عفيف، وآخرون باستثناء محمد عبد الرحمن الرباعي الذي ظل متمسكا برأيه في رفض انتخاب علي عبد الله صالح رئيسا للجمهورية العربية اليمنية، وامتنع عن الموافقة داخل مجلس الشعب، في حين وافق الجميع داخل المجلس على انتخاب الرئيس علي عبد الله صالح رئيسا، بحسب مذكرات يحيى منصور أبو اصبع.
صراع الاستخبارات:
يتناول علي ناصر محمد في كتابه هذا تسابق أجهزة الاستخبارات، في الشطرين، الأمن الوطني وأمن الدولة على استقطاب واختراق الجمعيات والاتحادات الطلابية وغيرها لاستقطاب العناصر مع ارتباط بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والسوفيتية، بل إنه في اليمن وبعد قطع خطوات مهمة على طريق الوحدة وإنشاء مؤسسات مشتركة، كانت تلك المؤسسات من بين أوكار أعمال التخابر ومكاتب التجسس على طرف ضد الطرف الآخر. بل إن وزارتي ومكاتب شؤون الوحدة اليمنية في عدن وصنعاء كانت تأتي في صدارة القنوات التي تمارس هذا العمل بمتعة وحدوية عظيمة. ص283.
وكذلك النشاط في المهجر، ويذكر أن جهاز أمن الدولة تمكن من اختراق عناصر في حزب الرابطة في الخارج، وكذا عناصر التجمع القومي في مصر والعراق وصنعاء. “وقد علمت أن جهاز الأمن السياسي في صنعاء بنى مسجدا بالقرب من إدارته، وشق نفقا إلى تحت الأرض من الإدارة إلى المسجد، تغطية لدخول المخبرين عبر المسجد ثم النفق إلى داخل الإدارة، والخروج من النفق نفسه.” ص284. ولعلّ حادثة هروب 23 من عناصر القاعدة بقيادة قاسم الريمي من سجن الأمن السياسي في 2006، قيل يومها أنهم حفروا نفقا بالملاعق إلى المسجد يؤكد لنا أن النفق لم يتم تحفره الملاعق، وإنما كان ممرا لطالما جاؤا منه وذهبوا!
بحسب الكتاب فقد تطورت أعمال الاستخبارات تصاعديا إلى العمق، فكان بين رجال كل نظام من نظامي الحكم من يعمل لحساب استخبارات النظام الآخر. وبلغ الأمر من الدقة والكفاءة في بعض الأحيان أن وقائع ومحاضر اجتماعات سرية على مستوى القمة في عدن كانت تصل إلى السلطة الحاكمة في صنعاء قبل أن يجف مداد صياغتها! ص285.
كان المال النفطي لدول الخليج هو عصب العمل الاستخباراتي، لهذا تراكمت الأموال وارتفعت القصور والأسوار الشاهقة!
يكرر علي ناصر محمد في أكثر من موضع في كتابه أن سلسلة الصراعات لم تتوقف منذ عام 1967، ,ان طابع هذه الصراعات التي راح ضحيتها عددا من القيادات- كانت في ظاهرها أيديولوجية وفي باطنها صراع على السلطة. لكن السؤال الذي لم يجد له صاحب الذاكرة إجابة هو :”من يحرك تلك الصراعات ويمسك بخيوطها غير المرئية منذ 1967 وحتى اليوم 2019؟!” ص373.
ويشير إلى توصيفات احتقارية كان يستخدمها الرفاق أثناء صراعهم مع بعض، كوصفهم لعبد الفتاح إسماعيل بـ”الجولبة” و”عاقل دكيم” و”بائع اللبن” التي كان يطلقها صالح مصلح وعلي شايع على الأمين العام عبد الفتاح إسماعيل. وكذلك يشير يحيى منصور أبو اصبع في مذكراته عن الدكتور عبد السلام الدميني أنه في لقائه مع علي عنتر عام 1980 وجد الصراع بين الرفاق، وأن علي عنتر كان يصف عبد الفتاح إسماعيل ومحمد سعيد عبد الله(محسن) وغيرهم بـ”السوس حق الحجرية”.
في أكثر من موضع في هذا الكتاب يتحدث علي ناصر محمد عن وجود أياد خفية تحرك الأحداث، ويقدم عبد الفتاح إسماعيل وكأنه دمية يحركها نايف حواتمة، الذي كان في كل زيارة له إلى عدن يعقبها صراع، ويضيف إلى نايف حواتمة فواز طرابلسي وعبد الله الأشطل.
يقول صاحب الذاكرة : إن هناك قوى تحرك الأحداث من وراء ستار للوصول إلى ضرب الجميع والقفز إلى قمة السلطة؟!”ص377.
لكن قراءة الأحداث ومآلاتها تجعلنا نصل إلى نتيجة أن هذه القوى التي تحرك الأحداث من وراء ستار تصب لمصلحة صنعاء والرياض والولايات المتحدة، لكن هذه الصراعات كانت في محصلتها تخدم إمساك علي ناصر محمد بالسلطات الثلاث، أي سلطة الدولة والحزب في آن. فطيلة الصراعات منذ 20مارس 1968 و22يونيو 1969، ويونيو1978 وابريل 1980 وصولا إلى عام 1986 كلها كانت تخدم استحواذه على السلطة المطلقة، فهل كان علي ناصر محمد بعيدا عن خدمة هذه الأيادي الخفية التي تعمل من وراء ستار؟
كان توصيف صاحب الذاكرة لعبدالفتاح إسماعيل صحيحا، بأنه لم يكن مؤثرا في الأحداث والصراعات بدرجة كبيرة “حيث كان تأثيره في سير الأحداث، ومشاركته في اتخاذ الخطوات التنفيذية محدودين، وكان قليل التماس بالناس، يرتاح إلى الهدوء والسكينة…وكان يميل إلى القراءة والتنظير ومجالسة الشعراء، لكنه لم يكن بعيدا عن هذه الصراعات، وإن لم يكن مؤثرا فيها بدرجة كبيرة”ص386.
يقول صاحب الذاكرة ” كنت متأكدا أن رفاق اليوم سيصبحون أعداء الغد، ولم يكن ذلك رجما للغيب، بل قراءة لخريطة الصراعات السياسية في عدن دون كبير عناء. وكان يبدو من هذه الخريطة أن صالح مصلح كان يريد التخلص من عبد الفتاح إسماعيل أولا، ومن ثم التخلص مني ليتسلم السلطة بعد ذلك ويعمل على تحقيق الوحدة اليمنية على طريقته، وهذا ما أكدته الأحداث والتطورات بعد ذلك، وما أكده صالح مصلح في السهرة المشهورة في عدن الصغرى بالبريقة عام 1985م، مؤكدا أنه سيصبح رئيسا، وجار الله عمر رئيسا للحزب. اما علي عنتر، وعلي البيض، وعلي شائع، فقد كانوا يسعون وراء رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع.”ص386.