- كتب: محمد ناجي أحمد
كتب الباحث والكاتب صفوان الشويطر تعليقا عن الحلقة الأولى من تناولي لكتاب (ذاكرة وطن) الذي ما زلنا بصدد مواصلة القراءة النقدية عن محتوياته، خطابا وذاتا، ولأهمية تعليق الباحث صفوان الشويطر فإنني أبدأ هذه الحلقة بتعليقه الذي يقول فيه :
“كنت من فترة اعتقد ان مذكرات هذا الرجل هي أهم ما يمكن قراءته عن التاريخ السياسي للجنوب ، و أتلهف لقراءة ما سيقوله عن احداث يناير …صحيح ما ذكرت أ.محمد من أن الصراع لم يكن فكريا و لكنه كان حول السلطة، و لكن ما دور الاستقطابات التي حصلت بين اجنحة الحزب احدها مع السوفيات و آخر مع الصين “جناح سالمين” ؟ ..اشعر ايضا ان علي ناصر قفز على فترة التصفيات بين الجبهتين القومية و التحرير و لم يحدد بالضبط بؤر الخلاف الحاصل او على الاقل المبررات التي اختلقها هذا الطرف او ذلك لتسويغ تلك التصفيات… قد لا يكون صاحب المذكرات كاذبا بالضرورة و لكنه عبر تجاهل او اخفاء بعض المحطات يكشف بشكل مباشر او غير مباشر عن بواعث و نوايا كامنة لديه …
قرات ذات مرة أن الخطاب المهيمن للمذكرات السياسية هي خطاب إقناعي بأن ما يقوله الشخص غرضه اقناعنا ببراءته من اللائمة الاخلاقية ازاء ما حدث.”
ما ذهب إليه الأخ الباحث صفوان الشويطر صحيح نسبيا بعموميته، لكن في تفاصيل الكتاب سنجد علي ناصر محمد أشار في محطات من هذه الذاكرة إلى أهمية المصالحة مع “جبهة التحرير” وقد التقى بهم في بداية عام 1970م من أجل عودتهم إلى عدن، وإن كان تواصله معهم كان بتكليف من القيادة العامة للجبهة القومية إلاَّ أن علي ناصر يعتبر ذلك منه مجازفة ومغامرة وتحديا للمزاج التخويني لأي تواصل مع من هم في الخارج.
وهنا يخون الذكاء علي ناصر في هذا الموضع والعديد غيرها، إذ تتجلى الذات المتضخمة بادعاء يتناقض مع الأدوار التي كان يؤديها وفق مسار محدد من القيادة العامة للجبهة لا مواجها لها، وهذا ما سهل له أن يتبوأ صعودا في القيادة العامة وفي المواقع الحكومية، وصولا إلى جمعه لكل لسلطات الحزب والدولة في يده عام 1980م، بعد إقالة عبد الفتاح إسماعيل وتسفيره منفيا إلى الاتحاد السوفيتي.
بالنسبة للتوجهات “التروتسكية” و”الماوية” و”اللينينية” فعلي ناصر يذكرها في سياق شحن التناقضات، والتلقينية التي كانت تواجه كل صوت معارض بحفظ المقولات والنصوص، والاستعراض بمعرفة الصفحات التي وردت فيها ضمن مختارات لينين، ولا شك أن إيرادها كان في سياق محاكمة وعي مرحلة وتقديم مفارقات مبالغ بها، وإن كان لها حضورها ووقائعها.
حدد صاحب “ذاكرة وطن” مساحته الزمنية منذ الاستقلال 30نوفمبر 1967 وإلى يوم الوحدة 22مايو 1990م. ولهذا فلا نستطيع نقده كونه لم يتناول دور جبهة التحرير في النضال ضد المستعمر البريطاني، فهذا ليس موضوع الكتاب.
لا شك أن غرض السارد وهو يستدعي ذاكرته المنتقاة هو أن يظل في قلب الأحداث، وأن يقدم نفسه محورا للحوار والسلام والبناء، وأنه متخفف من خصوماته الشخصية وراغب في تقديم تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كي تستفيد منها الأجيال، لكن ادعاءات علي ناصر محمد لم تستمر بذكائها فقد خانته في مواضع عديدة، كأن يتحدث عن سلطان أحمد عمر بأنه ليس له دور في الجبهة القومية وأنه أضيف إلى القيادة لأنه كان محسوبا على حركة القوميين العرب في تعز! وهنا يمارس صاحب الذاكرة تضليلا ومصادرة للتاريخ.
فسلطان أحمد عمر كان إلى جانب فيصل عبد اللطيف أهم اثنين مؤسسين لحركة القوميين العرب في إقليم اليمن، منذ عام 1956، ثم عودتهما في صيف 1958 لتأسيس الفرع في عدن وتعز وصنعاء. وكذلك فسلطان أحمد عمر كان إلى جانب عبد الحافظ قائد من كتبا ميثاق الجبهة القومية الذي أُقرَّ عام 1965م، وكان حاضرا منذ تأسيس الجبهة في اجتماع دار السعادة عام 1963 وما بعده من اجتماعات.
وفي هذا السياق، أي الإنصاف من أجل إدانة آخرين يأتي وصف علي ناصر محمد لـ”فيصل عبد اللطيف” فحين ذهب علي ناصر وآخرين من أجل إقناع فيصل بحضور اجتماع القيادة العامة، بسبب تمسك الرئيس قحطان بإقالة محمد علي هيثم من وزارة الداخلية وإصرار القيادة العامة على إلغاء قرار الإقالة، يقول علي ناصر :”كان فيصل عبد اللطيف ذكيا ورجل دولة من طراز فريد. وبهذا الموقف فإنه استشعر أن الخلافات تعصف بالقيادة وأدرك أن لا جدوى من الاجتماع، وبرهنت الأحداث بعد ذلك على صحة كثير من مواقفه”ص133.
وكذلك حين يصف استبعاد عبد القادر سعيد وعبد الحافظ قائد من قيادة الحزب الديمقراطي الثوري بحجة أنهما يمثلان الجناح اليميني الذي يرفض الانخراط في المعركة المسلحة، فإنه بذلك يُعرِّض دون التصريح-بمن قرروا واختاروا طريق الكفاح المسلح طريقا لتغيير النظام في الشمال، وهو الطريق الذي تكلل بما انتهجه الحزب في المناطق الوسطى، وجبهته الوطنية.
تتسرب المشاعر السلبية لذاكرة علي ناصر تجاه سالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، فيكون الانتقاء والحذف والتطويل والإرجاء والمحو والتمحور أدواته لسرد ذاكرته من موقع صانع التاريخ.
بل إن لغة الإنصاف تجاه قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف وضباط الجيش الذين قاموا بحركة 20مارس 1968م،وذكره لواقعة اعتقال الشهداء الناصريين، الصحفي أحمد العبد والكسادي وإخوانهم، الذين تم إعدامهم عام 1973م، كل ذلك يأتي في سياق من أصبحوا خصومه في القيادة العامة للجبهة القومية وفي المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني!
الملفت للنظر أن المؤتمرات العامة للجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي اليمني لم تكن مؤتمرات لصهر الآراء والتعايش بين وجهات النظر، وإنما كانت تؤسس لما هو قادم من صراعات وتناقضات داخل بنية الجبهة ثم الحزب. من هنا كان الذهاب إلى مؤتمرات استثنائية وتكميلية احتيالا وقفزا على هذه التناقضات وإرجاء لها، مما كان يجعلها تتراكم فيصبح انفجارها دويا بحجم 22يونيو1969 ويونيو 1978 ثم 1980، وصولا إلى مجمع الكوارث في 13يناير 1986م.
ولازال الحزب الاشتراكي إلى هذه اللحظة مستمرا بمؤتمرات تكميلية خوفا من أن يصبح المؤتمر العام نزعا لأجهزة تنفس تمده بحياة اصطناعية!
يقول علي ناصر محمد “وللتاريخ فإن عبد القادر سعيد كان الرجل الأكثر نضجا والأكثر تطورا في قيادة الحزب الثوري الديمقراطي.”ص104.
بحكم تأثر الجبهة القومية بالانقسامات في أوساط حركة التحرر العربية بعد هزيمة يونيو1967، سواء داخل حركة القوميين العرب في مركزها ببيروت، أو حزب البعث الخ، فإن هذه الانقسامات قد امتدت إلى داخل قيادة الثورة في اليمن الجنوبية، ما أدى إلى تفتيت وحدتها خاصة أنها لم تكن تتمتع بالحصانة الكافية.
استخدمت هذه القيادات هزيمة يونيو 1967 في صراعها على السلطة، للحكم على ” عجز “البرجوازية الصغيرة” عن قيادة نضال حركة التحر العربي إلى النصر، وعدتها مسئولة عن الهزيمة، ودعت بالتالي إلى ظهور “طليعة ” عمالية الالتزام، تقود التحالف “الطبقي” إلى إكمال برنامج التحرر الوطني. وتحت هذا الشعار خاضت معركتها، وعمدت إلى تصفية القيادة السياسية “التاريخية” المجرَّبة للجبهة القومية دون إيلاء أي اعتبار لرصيدها الوطني النضالي، ودورها الكبير في الثورة وإنجاز الاستقلال”ص143.
يبدي علي ناصر محمد تسامحا وتفهما وتبريرا تجاه من أطلق عليهم “شلة العقداء” وحركة 20مارس 1968، ويراها بأنها كانت نتيجة طبيعية في مواجهة خطاب العنف الذي هدد بجعل رؤوسهم “منافض لسجائرنا” بحسب ما جاء في نشرة “العنف الثوري” العدد الرابع بتاريخ 8-5-1968م، التي كان يشرف عليها طلبة كلية الشعب، والتي جاء فيها ” إننا لن نستطيع تثبيت سلطة الكادحين إلاَّ متى ما جعلنا من جماجم البرجوازيين والبيروقراطيين العسكريين منافض لسجائرنا، ومن جثثهم سمادا لأرضنا”ص145.
وينفي علي ناصر أن يكون هؤلاء العقداء من طبقات برجوازية، أو إقطاعية، فهم قد تدرجوا في الجيش من جندي إلى رتبة عقيد، وجاؤوا من طبقات اجتماعية فقيرة كان الجيش وسيلتهم للتخلص من فقرهم، تدرجوا ” وصولا إلى عقيد ولم يكونوا أثرياء أو مستغلي نفوذ وسلطة، وكانت حياة أغلبهم أقرب إلى الفقر”ص145.
وأن هؤلاء الضباط كانوا إلى يوم20مارس 1968م همهم اعتقال المتطرفين، لكن ولاءهم لقيادة الجبهة القومية ظل مستمرا إلى تلك اللحظة، فالجندية علمتهم أن يكونوا بعيدا عن السياسة. مستعرضا الظروف التي استفزتهم ودفعتهم إلى يكونوا ضد الجبهة القومية.
إن إلغاء الآخر كتناقض خارجي لا يؤدي إلى تصفير التناقضات. بل إن تقسيم التناقضات إلى تناقض رئيسي وتناقض ثانوي قد أصل للصراع وأعطاه مشروعية نظرية، وبوابة وحيدة لحسم التباينات عن طريق الإقصاء قتلا او نفيا أو سجنا.
فالتناقضات لا تزول لكنها تتوالد وتتكاثر وتتراكم، فما أن تتخلص من التناقض الذي تسميه رئيسي حتى ينتقل ما هو ثانوي إلى رئيسي، وما أن تتخلص من تناقض خارجي حتى ينتقل إلى داخل البنية الواحدة!
فـ”الجبهة القومية” حين حسمت صراعها مع “جبهة التحرير” بمساندة رئيسية من الجيش والأمن، انتقل الصراع ليكون مع الجيش والأمن والجهاز الإداري الموروث من زمن الاستعمار البريطاني، ثم داخل الجبهة القومية بين يمين ويسار، ثم داخل اليسار بين يسار انتهازي ويسار طفولي، ثم بين طغمة وزمرة!
يقول علي ناصر محمد ” والآن بعد ان حسمت الجبهة القومية ” الصراع مع القوى المنافسة لها فإن الصراع قد انتقل إليها وانحصر في قلبها، حيث لم تعد هناك منافسة مع حزب أو تنظيم آخر، ما حصر كل الخلافات وصراعات الآراء داخل التنظيم الواحد الذي لم يعد يزعجه وجود أحزاب أو افكار منافسة من الخارج، بل إن الأفكار والآراء داخله باتت هي المزعجة له، ما أدى إلى صراعات داخلية ارتدت طابع العنف في أغلب الأحيان.”ص150.
لم يستفد نظام الجمهورية اليمنية من تاريخ التناقضات التي يتم حسمها بالسلاح وإنما منذ اللحظة الأولى اتفقت مراكز الحكم فيما كان يسمى بـ”الجمهورية العربية اليمنية” أن تنقسم شكليا في تنظيمين، المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، وهما تنظيم واحد في الجوهر، حيث تنصهر قوى المشيخ السياسي والإخوان المسلمين وكبار الضباط والتجار والبيروقراطيون في هذين التنظيمين، وقد سعيا طيلة 1990 إلى 1993م في القضاء على شراكة الحزب الاشتراكي في السلطة من خلال شراء الولاءات داخل الحزب أو الاغتيالات، وصولا إلى حرب 1994م، وكانت انفعالية علي سالم البيض تصب في خدمة المنتصرين في حرب 94م، حين أعلن الانفصال، عَلَّه يواجه به الحرب، في خطوة تتناقض مع الطريق الوحدوي لحركة القوميين العرب والجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني ومسار الحركة الوطنية اليمنية التي ناضلت من أجل يمن ديمقراطي موحد.
لكن التناقض انتقل إلى داخل بنية المنتصرين بالسلاح، وليبدؤا طريقا من الحرب الباردة من خلال انتخابات مجلس النواب والكتلة المريحة ثم الكاسحة، وانتخابات الرئاسة والمحلية وصولا إلى الإقصاء عبر ما سمي بـ”المسيرات المليونية” أي استخدام شارع في مواجهة شارع، وانتهاء بسقوط السيادة والاستقلال وتذرير اليمن أرضا وإنسانا.