- كتب: محمد ناجي أحمد
“ذاكرة وطن-جمهورية الديمقراطية الشعبية-1967-199” كتاب للرئيس علي ناصر محمد.
هو ِسفْرُ ذاكرة تسرد التاريخ من منظور صاحبها، وهذا يعني أن الذاتي يتداخل مع الموضوعي، مقدما لنا سردية عقود من موقع رائيها المتكلم من الآن، متجها نحو الأزمنة المتجاروة والمتنافرة، الأزمنة بما هي أمكنة ووقائع وشخصيات ووجهات ورغبات…
يتحدث علي ناصر محمد في كتابه هذا عن تجربة جمهورية اليمن في الشطر الجنوبي من الوطن، وفيه يتداخل السياسي مع الجغرافيا مع الأيديولوجي مع المراجعات النقدية، مع تصفية الحسابات الشخصية، مع الرغبة في الإنصاف وتقديم تجربة سردية فيها قدر عال من البوح الراغب في إضاءة الطريق للأجيال القادمة؛ حتى لا تكرر طريق الاستحواذ والتسلط، مهتديا بما تؤول إليه المصالح الشخصية من اصطدام مع مصالح شخصية متعارضة يكون ضحيتها الوطن، ووسيلتها التبريرية الأيديولوجيا الدغمائية، التي يكمن خلف قشرتها صراع تسلط لا تباين اتجاهات.
نستطيع أن نلمس بوادر النزوع نحو السلطة والاستفراد بها من مقابلة الوفد الذي ذهب في نوفمبر 1967م إلى جنيف من أجل إجراء مفاوضات الجلاء والاستقلال.
حينها التقى قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف وعبد الفتاح إسماعيل بالقاضي عبد الرحمن الإرياني الذي كان في مقر إقامته الجبرية بمصر يعدُّ نفسه للعودة إلى اليمن، ليتسنم رئاسة المجلس الجمهوري بانقلاب أبيض تم من خلاله الإطاحة بالرئيس عبد الله السلاسل كرمزية على عصر ما قبل نكسة 5يونيو 1967م.
التقى القاضي عبد الرحمن الإرياني بقحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف، وحادثهم عن الاستقلال والوحدة، لكنه وجد طريقهم يتجه نحو الاستقلال لا الوحدة، وإن كان لقاءه مع عبد الفتاح قد أعطى مؤشرا وحدويا، لكن اللقاء يعكس غياب الرؤية المتكاملة والواضحة داخل قيادة الجبهة القومية، وهو ما يسحب نفسه في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية.
في أول اجتماع لتشكيل حكومة الاستقلال بعد الجلاء البريطاني من عدن، اجتمعت القيادة العامة للجبهة القومية صباح يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م،وترأسه قحطان الشعبي.
في هذا الاجتماع تحدث مفكر الثورة والدولة-كما يصفه علي ناصر محمد- فيصل عبد اللطيف عن الأوضاع الصعبة وما تتطلبه من شجاعة ومسؤولية، واقترح استشارة حركة القوميين العرب، ثم وجه حديثه الناقد لمن يريدون أن يتخففوا من المسؤولية عملا بنصيحة بعض قيادات الجبهة الشعبية، كي يتم حرق قحطان الشعبي ثم يأتي بعد ذلك دورهم لاستلام السلطة. يقول فيصل عبد اللطيف، بأن الانتقال من واقع الجبهة القومية إلى إقامة ” الحزب الثوري” ” لا يمكن إلا بتوافر قدر كبير من المصارحة ومعرفة واقعنا اليمني… وتوافر نوع من الدراسة حول واقع الجبهة القومية، وأهمية أن يكون هناك فهم شامل. وبما ان السلطة امتحان للتنظيم، ولكنه امتحان لا مفر منه، وعلينا اجتيازه، ليس بالتهرب… البعض يريد التهرب من المسؤولية ومواجهة المصاعب لكي يحرق الآخرين. فأين رفقة النضال، وقد بدأنا نفكر سوءا في بعضنا”.
يقول علي ناصر محمد :” والحق أن مداخلة فيصل عبد للطيف لامست كثيرا من القضايا الحساسة والظنون والدواخل، وكانت موجهة إلى عبد الفتاح إسماعيل بعد أن أسرَّ بعض قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأنه ينبغي أن يفسح المجال أمام قحطان الشعبي ليتولى الرئاسة ليحرق ثم يُطاح”ص5.
يضيف علي ناصر محمد في هذا الكتاب تناولات لقضايا سياحية عن الجزر اليمنية، ويتوقف عند قضايا لغوية مفسرا معنى العرف وجذره، أو تسمية التواهي الذي هو في حقيقته نطق الجالية الصومالية في عدن التي كانت تنطق اسم “الضواحي” أي مشارف عدن على البحر بـ”التواهي”
يعطي الكتاب مشاهد حية عن زحف الريفيين على عدن عند الاستقلال وجلاء الاستعمار ” بعض أبناء الريف في غمرة الحماسة، دخلوا المدينة لأول مرة خلال الحرب الأهلية، وبعضهم حمل السلاح وقاتل، ولكن لم يكن يعرف مع من يقاتل ولماذا يقاتل! كل ما يعرفه أنه منحاز إلى أصحابه في الجبهة القومية، أو الجيش أو الأمن…كما هي الحال في الجانب الآخر.
كنت أرى بعضهم يجلس في حارة ” الهاشمي” على الكراسي والقعائد(المصاطب) لحماية مقر الجبهة القومية في عمارة العريقي بالشيخ، وأرى آخرين يجلسون القرفصاء مستنفرين إلى درجة أنهم يقفزون عند سماع أو مشاهدة أية حركة تثير ريبتهم، نافضين الغبار عن ملابسهم من الخلف، وقد شاهدت بعض هؤلاء ينتف ذقنه أو شنبه بملقط صغير أخرجه من خلف(جهازه) الذي يحتوي على معتدات كثيرة حادة :” خنجر، سكين، شفرة، ملقط، إبرة ومشكة، والنشوق الذي يستنشقه عوضا عن السجائر، وربما لو أسعفهم الوقت لحملوا (الكحل) أيضا…”
دخل الريفيون إلى عدن ببنادقهم، في حارات لم تكن تعرف سوى العصا المعقوفة، تستخدم للوجاهة أكثر منها للعنف.
يعرض لنا علي ناصر محمد بعض المواقف ذات الدلالة في فهم الشخصيات القيادية في الجبهة القومية، من ذلك أنه عند تعيينه محافظا للجزر في 1ديسمبر1967 كان حائرا يريد أي شيء يساعده في معرفة خرائط الجزر وتاريخها وعاداتها وسكانها ومقدراته، فذهب إلى زميله في الدراسة علي سالم البيض وزير الدفاع، فقد تزاملا في مدرسة الصاعقة بأنشاص بمصر-على النقيض مما يدعيه الدكتور إسماعيل قحطان في رسالته للدكتوراه والمتعلقة بحركة القوميين العرب، من أن قيادة الصف الثاني في الجبهة القومية كانوا شبه أميين!-وقبل ذلك تزاملا قبل أسبوع من الاستقلال حين ذهبا إلى تنزانيا وكينيا “للتفاوض على صفقة سلاح صيني لحسم المعركة مع البريطانيين التي حسمها الآخرون في غيابنا”ص18.
“طرقت باب صديقي الوزير. كنت أطمح إلى أن أعثر عنده على وثائق الجزر. كان في نيتي أن أطلب منه أن يرتب وصولي إلى الجزر عبر الجو أو البحر.
عندما فتحت الباب وجدت صديقي خلف مكتبه الجديد، مشغولا في حديث هاتفي، بينما سكرتيرته أمامه. خاطبني بالانكليزية :
-دقيقة من فضلك!
لم أصدق ذلك. أغلقت باب مكتبه وانصرفتُ، وقد حال أحد حراسه أن يلحق بي، ولكني كنت قد وصلت إلى سيارتي، فلم يدركني.”ص18.
يتوقف علي ناصر محمد عند مشاهد عديدة بخصوص علي سالم البيض وهي في مجموعها ترسم صورة للأخير بأنه باحث عن السلطة، ولو بالاتفاق مع خصوم الثورة، ومن ذلك اتفاق علي سالم البيض مع عبد الله علي مجور وعبد الله صالح سبعة للانقلاب على الجبهة القومية وتولية علي سالم البيض رئيسا، ثم لا يتوقف علي ناصر عند هذا فقط بل ويتهم البيض حين كان وزيرا للخارجية بأنه استقدم مجور من مصر إلى عدن ليتم قتله، كونه شاهدا على انتهازية البيض وسعيه للسلطة بأية وسيلة كانت!
ويحمله ما ترتب على قراره طرد البحارة والطيارين البريطانيين دون علم قحطان مما أدى إلى امتناع بريطانيا عن إمداد اليمن بقطع الغيار للآلات والمعدات للقوات المسلحة، التي تركتها بريطانيا عند انسحابها!ص39.
يرى علي ناصر محمد أن عدم كفاية الحصيلة النظرية والفكرية لدى قيادة الجبهة القومية، والمتعلقة بضعف المقولات الاشتراكية المطروحة ومحدوديتها والطابع الميكانيكي التلقيني الذي غلب على التعامل معها خلق حالة من الفوضى والمزايدات في التفسير، استمدت اندفاعاتها من اطروحات نايف حواتمه، وكتابه ” أزمة الثورة في اليمن الجنوبي” ورؤيته لحضرموت وكأنها قطاع منفصل وليست جزءا من دولة، مشبها لها بـ(كومونة باريس)!
وقد اضطرت القيادة بمبادرة من فيصل عبد اللطيف أن ترد عليها بمساجلة معمقة كتبها فيصل وقدمها باسم أربعة من أعضاء القيادة العامة، وهم :” فيصل عبد اللطيف، وعلي عبد العليم، وعبد الفتاح إسماعيل، وخالد عبد العزيز” لكن الثبات على هذه الرؤية لم يستمر، فما أن أطيح بالرئيس قحطان الشعبي، واعتقل في 22يونيو 1969 ووضع تحت الإقامة الجبرية، حتى توفى في سجنه عام 1981م، وتم قتل فيصل عبد اللطيف داخل معتقله، متعللين بحجة مختلقة أنه حاول الهرب والمواجهة- ما أن تمت تصفية فيصل عبد اللطيف عام 1969 استعادت رؤية ومقولات نايف حواتمة سلطتها وسيطرتها وإلزاميتها.
وهي المقولات النظرية التي أزاحت الواقع لصالح النصوص الميكانيكية والتلقينية.
كان هناك يقظة ثورية لمواجهة الأخطار والتحديات، لكن التصورات النظرية الجاهزة، والمتطرفة لبعض القيادات استفزت مشاعر الكثير من القيادات العسكرية والمدنية، ومن ذلك الدعوة إلى تطهير الجيش من “شلّة العقداء” والتهديد “بأننا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر”ص61- هذه المقولات الجاهزة خلَّقت التناقضات، لتبدأ بتصفية عقداء الجيش الذين ساعدوا الجبهة القومية ومكنوها من السيطرة في عدن ولحج وغيرها، لتنتقل تلك التناقضات إلى داخل القيادة العامة للجبهة القومية، مسترشدة بمقولات وتنظيرات نائف حواتمة عن ” اليمين الرجعي” و”اليسار الانتهازي” في حين أن جوهر الصراع لم يكن فكريا وإنما صراع استحواذ على السلطة يرطن بمقولات هلامية لا علاقة لها بتحديات الواقع.
وما يؤكد ذلك بحسب علي ناصر هو أن قانون الاصلاح الزراعي الأول، أقر في زمن الرئيس قحطان الشعبي، وأن قانون التأميمات كان جاهزا في عهد قحطان وتمت عرقلته حتى لا نزداد شعبيته، والعلاقة مع الاتحاد السوفيتي وكوبا وعقد اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتجاري كان كذلك في عهد قحطان!
يقول علي ناصر محمد :” وكنت متأكدا من أن بعض الذين كانوا ينظِّرون إلى التطرف باسم اليمين واليسار لا يؤمنون بالأفكار التي كانوا يتحدثون عنها أو يزايدون باسمها، وسلوكهم وممارساتهم وتنظيراتهم ليس لها علاقة بالعمال والفلاحين والكادحين، وإنما كانوا يزايدون في ذروة التطرف والترف الفكري الذي كان سائدا حينها بعد نكسة حزيران 1967. وتأكد لنا لاحقا أن البعض منهم انتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بل إلى أحضان الدول الرجعية التي كانوا يطالبون بإسقاط أنظمتها.”ص89.
لا زالت ظلال علي سالم البيض وغيره حاضرة في ما بين السطور. وسرعان ما تطفو على السطح، بمفارقات ساخرة وجذرية.
ففي طرابلس الغرب التقى علي ناصر محمد عام 1970بالرئيس جمال عبد الناصر، وصف الرئيس جمال عبد الناصر القيادة في جنوب اليمن بأنها تزايد على مصر وعلى سياستها الداخلية والخارجية، وذلك ردا على اتهامات علي سالم البيض لمصر بأنها دولة برجوازية ودولة مخابرات، واتهام عبد الناصر بأنه برجوازي صغير، فقال عبد الناصر : إن مصر أممت قناة السويس، وأنتم أممتم السينما الصيفية بالمكلا…وضحكنا معا.ص113.