- ضياف البراق
ركبتُ رأسي وهربتُ من الحب والشوارع والأرصفة والريح والبرد والاستقرار الوطني المُزدهِر، إلى غرفة فردية رخيصة في فندق متواضع لم يعجبني اسمه المكتوب على اللوحة بصيغة إملائية خاطئة؛ أنا ترعبني الأخطاء الإملائية أكثر من الجثث! الغرفة مكوّنة من أشياء بسيطة جدًّا، وإلى حدٍّ ما تُشبِه حياتي قبل الحرب. هربتُ من نعيم السياسة الدموية إلى جحيم هذه الغرفة التي سأتركها رغمًا عنّي بعد انقضاء هذه الليلة الطويلة. ثم سأهرب بجِلْدي وحده إلى بالوعة أخرى. جميع هؤلاء الناس هم من زمان في حالة هروب مخيفة وبائسة، نفس حالتي الراهنة، ولكنهم دائمًا يتظاهرون بعكس ذلك؛ ربما حِفاظًا على سلامة مزاج السلطة المتوتِّر باستمرار. إنهم سَلَطة السُّلْطة المُفضَّل أكلها مع كل طعام وكل خطاب وكل قرار وكل جُرْعَة شرعية. الحياة، هي في الحقيقة حالة هروب دائمة ونحن أبطالها وضحاياها إلى آخر لحظة. ولكنْ، لديَّ قدرة عجيبة على ترك الأشياء حين أرغب بذلك، مهما كانت باهظة الثمن، نَعم، أتركها على كيفي متى أشاء ولا أشعر بالخسارة.
في مسلسل الزير سالم، تقريبًا يطلب كليب من أخيه سالم أن يكف عن العبث والصعلكة وراء الخمر والحسناوات، فيرد عليه الأخير: “مشكلتي أنني لا أعرف شيئًا في الدنيا اسمه الاعتدال”. أنا أيضًا لا أعرفك أبدًا أيها الاعتدال القاتل.
ومرة يجيء الزيرُ منتشيًا وهو سكران ملء روحه: “اشرب يا أبا نويرة لكي تُطيقَ نفسك أو تنساها!”. سأشرب الليلةَ عَرقَ المسافةِ الطويلةِ التي أتيتُ عبرها إلى ٢٠٩.
من زمنٍ مبكر، تركتُ حياتي تغرق وحدها في الرمل، ورائي، ركلتُها بعيدًا عن طريقي ومستقبلي، مُجبَرًا على ذلك، وها أنا لم أمت لسوء الحظ. ستارة النافذة طويلة وعريضة ولكنها لا تكفي لتغطية هزيمة نفسية لها حجم البلاد تمامًا. الباب من خشبٍ جيّد، ويُشبِه السرير إلى حد كبير. كل شيء هنا لا يخلو من بعض الغبار والبقع السوداء والألم. الكارثة أن الزبائن كثيرون جدًّا والحمّامات قليلة جدًّا. الزبون اللعين الذي ترك الغرفة منذ ساعة، تركها على صورة بشعة جدًّا هي بالضبط صورته الحقيقية المطمورة في صميمه. هنا تلفاز صغير لن أحتاجه أبدًا، وهنا سجّادة مطوية أنيقة تنتظر الراغب بالصلاة، وأنا لا أصلّي بل ولا عندي أيّ رغبة طقوسية دينية مستقبلية، وهناك في الجانب الآخر لا شيء من تلك الأشياء التي سأحتاجها كثيرًا إذا تطلّب الموقف الرحيل الأخير السريع. الجدران أربعة والسقف واحد والعذاب مُشترَك بين الجميع. الغرفة المجاورة مكتظة بمجانين جُدُد لأنها تصدر إزعاجات كثيرة غير مفهومة ولا مقصودة. غير أنّي لم أجيء من أجل الهدوء، لا، فهذا متوفر لنا بكثرة في جميع شوارع دولتنا اللذيذة. الأسواق في صنعاء أقلُّ ضجيجًا وأكثر دفئًا من البيوت. إنها العاصمة الوحيدة في العالم التي تلتهم البلاد كلها. الغرفة في جناح، والحمّام في جناح آخر، والمسافة بينهما بعيدة قليلًا، وأنا أشدُّ كسَلًا من عضوي السافل المنُكمِش إلى الصفر من شدة ضغط البرد القارس. اختصارًا للمسافة والوقت والكلام، سأبول هنا في هذه القنينة الفارغة حتى امتلائها، مُرتِّلًا كلمات نشيدنا الوطني بنطقٍ سليمٍ وقلبٍ لا يخون ولا يبول. بالَ أخوكم بسلام. سأعود الآن لمواصلة الكتابة عن مناخ الغرفة، مع أنني الآن دائخ حتى الموت من نتانة رائحة الزبون السابق.
مضى قليلٌ من وقتي التافه. احلولكت الغرفة فجأةً وصارت كقبرٍ عميقٍ مسقوف بدقة متناهية. اختفى السرير من تحتي. احلولت الروائح المنبعثة من الحمّامات الكريمة. أصوات ضجة جموعية تطالب بالكهرباء في الصالة السفلى للفندق حيث يجلس المدير في مكانه الفاخر المُخصَّص له فقط. أكاد أختنق بالفرح والراحة، شكرًا يا إلهي.