- عبدالملك الحاج
نهض المغبش باكراََ “ينعبش الغبش ويصحي المقيبل ومريم الراعية” قبيل قدوم غباشش الفجر ثم استعد للقيام بجولته اليومية التي تبتدي من اسفل الذراع وتنتهي في أعلى الوادي، ومع اول خطوة خطتها قدمه من باب المنزل الى الخارج اخذ يردد دعائه المعتاد….. “يا فتاح يا عليم.. يا رزاق يا كريم.. يا قاضي الحاجات، ارزقنا الخيرات.. وجنبنا النزغات.. واصرف من دجاهنا الزقوات.. وحولنا ببقرة ومرة، واثنين مدافن ذرة، واربعة ارطال سليط من المعصرة”.
اكمل المغبش ورد الدعاء، وعندما ابتداء بالنزول من مدرج الذراع الذي ينحدر باتجاه الاسفل ارتفع صوته يصدح بذلك الموال الصباحي، وعند وصوله الى الوادي شاهد (معجب) قادم نحوه من أعلى الوادي وحزم الحطب على رأسه، اقترب معجب من المغبش فضحك وهو يقول… صوتك ولا صورتك يا مغبش افدي الصوت، وبادر على الفور باحتضان المغبش وهو يسرد تلك الكلمات المعبرة عن الود وشغف اللقاء، فهذه هي طبيعة معجب انه يتعامل مع الجميع دون تمييز او حواجز او مستويات.
لقد كان معجب يمتلك قلب طفل، وطباع متصوف، ظاهره زاهد وباطنه حريص، يتصرف بعفويه حذرة، وتلقائية محسوبة كلامه سهل ممتنع وغالبا ما يستخدم الرمزية في كلامه، سلوكه وتصرفاته تتغير بحسب المواقف، لا يحمل الحقد ولا يعرف قلبه الكراهية، متسامح مع الجميع لا توجد لديه عداوة مع احد، مكافح ومثابر يحترم العمل ويقدس القرش الذي يكسبه من عرق جبينه، يكره التبذير ويحب التقشف.
يعتبر معجب احد السائقين القلائل الذين يمتلكون ناقلة شحن يعمل عليها في تلك الطريق الترابية الوعرة الممتدة بين مدينتي تعز وعدن، فقد كان يقوم بنقل بضائع التجار من ميناء عدن الى الراهدة وتعز، وعلى الرغم انه من ذوي الاملاك، لكنه يبدو كإنسان بسيط جدا ومتواضع الى ابعد حد، دائما ما تجده يرتدي تلك الملابس المتسخة بزيوت وشحوم المواتر، يعتبر معجب حالة نادرة فهو ذلك الطالب الاكاديمي الامي الذي تخرج من اكاديمية الحياة وحصل على درجة الدكتوراه الفخرية عالية المستوى وبتقدير امتياز.
يقف المغبش يتحدث اليه وبدلا من ذهابه الى اعلى الوادي كما اعتاد يوميا، اقنعه معجب بالذهاب معه نحو الاسفل الى (الحياجن) المكان الذي يوقف به الشاحنة او الموتر، وقد كانت تعرف هذه الشاحنه على مستوى واسع باسم (طنجة معجب).
اقتنع المغبش بالذهاب الى المكان الذي يركن به معجب شاحنته وذلك بعد ان اخبره بان هناك اخبار جديده تتعلق بالحشد الجماهيري الكبير الذي ستشهده مدينة الراهدة، حيث سيتجمع اليها اهالي المناطق والعزل والنواحي المحيطة بها للتسجيل في جيش الثورة….
معجب :
من امس والراهدة معصودة عصد وينك راقد يا مغبش.
المغبش :
مو حصل.
معجب :
امس العصر وصلت لجان ونزلوا مسئولين من صنعاء، وفي ضباط من حق مصر اللي ارسلهم عبد الناصر لليمن من شان يعملوا لها جيش، واجتمعوا مع محافظ الراهدة والاعيان والمشايخ حق النواحي.
المغبش :
سمعتو امس من صوت العرب تقول هبوا يا شباب اليمن دافعوا على ثورتكم والجمهورية… تقول مو شقع يا معجب.
معجب :
اليوم شسجلوا الناس بالعساكره، من شان يعملوا جيش للبلاد والمصريين شدربوهم وشرجعوهم صنعاء يحاربوا الملكية.
المغبش :
مو عاد شحاربوا.. قا قتلوا الامام وابنه البدر هرب مو عاد باقي.
معجب :
الامام هرب لا صعدة وجلس هناك وذلحين قا رجع وجيش القبائل معه، من خولان وبني حشيش لما تندي صعدة كلها معه… هيا اتحمل معي عصبه حطب.
المغبش :
والحطب مو اشتعمل به وا معجب.
معجب :
اكرب به تحت الطنجة.
المغبش :
انت بعقلك.. ولو حرق البابور.
معجب :
لا ما شحرقش هذم البوابير ما يشتغلوا الا بعد ما تلصي له وقيد تحت المكينه حقه من شان يحمي ويقوم استاد.
المغبش :
كيف الشغل معك هذي الايام.. اكيد قا يكون معك قشو جنيهات وقروش وشلينات وفرنصي وروبيات.
معجب :
انا فدا لك ومغبش.. انت سرت بلاد الحبش واقتلبت هناك سيد طويل عريض.. قالوا روحت معك خمسه صناديق ملانتهم قروش، اين وديتهم هات شرفعهم لك عندي لا يضيعوا عليك.
المغبش :
مو تحسب انا مثلك همزه لمزه، تمز الذبابة وطيرت به جفيف، انا يومي عيدي، عمرتو البيت والباقي خزنتبه قيتان واكلتوا كباش واثوار، وعملناهن كلهن.. خرج يا معجب المهكب بن ادم موات.
معجب :
انا حميسك وا مغبش منينه والله ما هلله، الكروة كوده تجي حق ديزل والا حق صليط، والبابور يشا تصلوح لا راسه.. كل ساع وعطل.. الاسبوع الاولاني عطل عليا بعقان وجلست البضاعة فوقه اسبوع وانا جنبه احرسه لما اندوا اصحابي السواقين اجنير من داخل عدن.
المغبش :
اكا انت مكانك تشكي وتبكي مع دريناش انك شابع ولا جاوع… كنت جرشبل مع درينا الا وقدك سواق وقا معك موتر.. الله يفتح عليك ويزيدك من عنده.. هيا افسح لي انا شرجع طلع وانت وداعة الله حفيظك.
معجب :
معي شغله لك لكن لما ارجع من المخاء شخبرك مو هي الشغلة.
المغبش :
قول لي مو هي هذي الشغلة؟!
معجب :
اصبر لما ارجع لمو العجل.
المغبش :
على الله لقا خلق اشنسموه.
يعود المغبش الى منزله لتناول الفطور وكانت زوجته قد اعدت له “القراع” وكتلي القهوة، جلس امام منزله في المكان المطل على الوادي، واخذ يشرب بذلك “القزع” قهوة البن وياكل من تلك الفطيرة، وكان امامه الراديو الذي احضره معه من الحبشه، ليتابع اولا باول الاخبار وتطورات الاوضاع، فكان يحرك بيده عجلة موجة المذياع ويتنقل من محطة الى اخرى وكثيرا ما كان يوقف تلك العجلة عندما تصل الى محطة صوت العرب من القاهرة او اذاعة صنعاء ثم يعرج بعد ذلك الى اذاعة لندن.
لقد كانت اذاعة صوت العرب هى اذاعته المفضلة، انه يتابع اخبار مصر وحربها مع اسرائيل، كما كان شغوف لسماع خطابات عبد الناصر وتعجبه تعليقات المذيع احمد سعيد وكثيرا ما كان يردد اسمه، ويتابع ايضا جميع الاغاني والاناشيد الوطنية اليمنية التي كانت تذاع عبر صوت العرب، وعندما كانت اذاعة القاهرة تعلن عن بث مباشر لحفلة ام كلثوم فقد كان المغبش يستعد لهذه الليلة استعداد تام حيث يتوافد الى بيته الكثير من عشاق ام كلثوم من ابناء المناطق المجاورة لمتابعة السهرة الفنية في بيته.
بعد انتهاء المغبش من تناول فطوره استعد للذهاب الى السوق ولكنه اعتاد قبل ذهابه الى السوق الاستماع الى نشرة السابعة والنصف صباحا من اذاعة صنعاء، في بدية النشرة كان المذيع يسرد نداء مجلس قيادة الثورة الذي يهيب فيه المجلس بجميع ابناء اليمن الالتحاق في صفوف الجيش للدفاع عن الثورة والجمهورية وحمايتها من القوى الرجعية والملكية المتخلفة.
في أثناء متابعة المغبش للنشرة الاخبارية، يسمع تلك الاصوات الهادرة التي ترتفع من اعلى الوادي، انهم مجاميع الشباب القادمين من المناطق التي تقع في اطراف الناحية متجهين نحو مدينة الراهدة وهم يرددون ثورة ثورة يا سلال.. لا ملكية لا احتلال..
اغلق المغبش المذياع ونهض من مكانه لياخذ “رديفه” ويتجه نحو الوادي لملاقاة هذه المجاميع وهى تردد الهتافات الحماسية،
ينضم اليهم المغبش وهو يردد ثورة ثورة يا سلال.
اتجهت تلك المجاميع لمقابلة اللجنة المصرية العسكرية القادمة من صنعاء، وعند وصولهم الى الراهدة التحمت تلك المجميع مع الجموع الغفيرة القادمة من بقية العزل والنواحي المحيطة بالراهدة، عند وصول المغبش الى هناك التقى بعدد من كبار المهمشين ودعاهم إلى المقيل في بيته بذراع الابل بعد الظهر لكي يتناقشون في موضوع هام يخص الاخدام.