- عبدالملك الحاج
منذ وصول المغبش الى الحبشة دخل في غيبوبة حلم جميل تمنى ان لا يصحو منه نهائياََ كي لا يصدمه الواقع بذلك الكابوس المفزع الكئيب، لقد وجد في هذا الحلم الذي يعيشه كينونته الضائعة، ذاته وروحه التى تحلق في فضاءات واساعة لا حدود لها، وشعر بقيمته المفقوده، حُضي بالاحترام وغُمر بالمحبة وحس بدفء تلك القلوب الطيبة التي لا تعرف الكراهية ولا يسكن في داخلها الخبث والخسة وغل الاحقاد، واحب تلك العيون البريئه التي لا يوجد فيها الاحتقار ولا النظرة الدونية، تلك النظرة التي ظلت تلاحقه منذ طفولته.
في تلك الفترة تشكلت العديد من التنظيمات والحركات السرية بداخل الوطن وخارجه للقضاء على الحكم الامامي في الشمال وتحرير الجنوب المحتل، وفي الحبشة شهدت الجالية اليمنية في اوساطها حراك ثوري نشط لدعم الثوار والاحرار في داخل الوطن ومدهم بالاموال لشراء السلاح والذخائر.
اما في مدينة دردوا فقد كان ابناء الجالية يجتمعون باستمرار لتداول تطورات الاحداث بالوطن وكان الحاج علي نعمان هو من يتولى جمع الاموال في دردوا ويذهب بها الى مقر الجالية الرئيسي في العاصمة اديس ابابا لتسليمها للمسئولين عن دعم ثورة اليمن.
تحمس المغبش لهذا الحراك المناهض للظلم والذي يسعى الى التخلص من جبروت الطغاة ويدعو الى العدالة والمساواة وازالة الفوارق بين الطبقات، فكان يذهب مع سعيد عبده ويحضر جميع اجتماعات وفعاليات الجالية بمقرها في “دردوا” ويساهم بدفع المال من اجل قيام الثورة.
كانت السعادة تغمره كلما عاد هو وصديقه سعيد من مقر الجالية، بعد سماعه للنقاشات التي كانت تدار اثناء الاجتماعات ولتلك الكلمات الرنانة التي كانت تهز وجدانه وتشعل الحماس في اعماقه، كما كان يتمنى لو يأتي هذا اليوم الذي سيتم فيه القضاء على الامامة وزبانيتهم من النواب وعمال النواحي والقضاة والمشائخ والاتباع عن قريب، انه على ثقة بان الحلم سيتحول الى حقيقة وان التخلص من القهر والظلم والإستبداد قد حان والثورة قادمه لا محالة.
عاد المغبش من مقر الجالية الى المنزل ومعه سعيد عبده حيث كانت برجيتا تنتظر وصولهم هى وعدد من صديقاتها لقضاء ليلة سمر معا، اخذ كل واحدا منهم مكانه في تلك الحجرة التي يفوح في ارجائها اريج البخور برائحته العطرة وبدأت السمرة بتناول اغصان القات “المسماري” ومضغها، فتدخل احدى الفتيات حامله في يديها (المداعة) وتضعها في وسط المكان وتقوم بتعميرها.
اما الاخرى فتدخل ذلك الموقد الملئ بالجمور المشتعلة وتضعه امامها، وبين الحين والاخر كانت تحرق قشر البن الخضراء على ذلك “التشط” كي يتبخر المكان برائحة البن الحبشي الفواح، ثم تعود لتقوم تارة بوضع “كتلي” القهوة على الموقد وتارة اخرى تصب قهوة البن الى الاكواب وتوزعها على السُمار، كان المطر في تلك الليلة كلما توقف عن الهطول عاد للتساقط مرة اخرى من جديد.
تبتدي السمرة وترتفع ضحكات الفرفشة من وقت لاخر، وتقوم بريجتا التي تجلس ملتصقة بالمغبش بتقطيف القات ووضعه في فمه، إلا ان المغبش كان ذهنه قد شرد بعيدا.. انه هناك في “ذراع الابل” يتذكر نعمة وسمراته على سقف ديمته هناك…. نعم لقد تذكر تلك الليلة التي قرر فيها السفر لجمع المال كي يعود ليبني بيته المنشود، تذكر بعد عدة سنوات مضت وعده “لنعمة”، التي تركها وهى حامل في شهرها الخامس، انه يتسائل كيف كانت ولادتها يا ترى هل كانت طبيعية ام تعسرت؟! وهل ذلك المولود لا زال يعش؟ هل هو صبي او صبية!!.. ام توأم؟!!.. لحظات قاسية يمر بها المغبش وهو يستعيد ذاكرة سبع سنوات مضت وعدة اشهر منذ ان ترك القرية، انه يشعر بإحساس غريب.. بحنين للارض والاهل والديار، نسى في تلك اللحظة كل شئ ولم يعد يتذكر غير نعمة والذراع وابنه او بنته او الاثنان معا.
يتحدث مع صديقه سعيد الذي اخبره بان “علي مقبل” سوف يسافر بعد ثلاث ايام وسيمر الى دكانه قبل سفره، انه “الطبل” الوحيد القريب من المنطقة… يذهب المغبش في اليوم الثاني للتسوق وشراء بعض الهدايا لزوجته وطفله… وعندما عاد طلب من سعيد عبده بان يكتب له رسالة لزوجته نعمة يخبرها بانه في صحة جيده وسوف يسافر اليها عن قريب.
بنفس الاسبوع الذي سافر به (الطبل) “علي مقبل” الى اليمن وصل احمد مكرد من اديس حاملا معه رسالة نعمة للمغبش فيسلمها الى صديقه سعيد عبده.
كان المغبش في تلك الليلة متكي في منزله يمضغ القات الهرري، فيصل سعيد عبده وينظم اليه في السهرة يتبادلان الحديث…
- معي لك خبر مليح يا مغبش.
- مو من خبر يا الله بداعي خير.
- مكتوب من عند نعمة.
ينهض المغبش على ركبتيه فيحتضن الرسالة ويقوم بتقبيلها فيقول: - هيا اقرأ وسعيد قلبي يرجف احسه شقفز من بين الضلوع.
- يفتح سعيد الرسالة ثم يقرأها…
طمئنته زوجته بانها بخير وتعاتبه بشدة وتخبره ان ابنته “غانية” مشتاق اليه وتريد ان تتعرف على والدها، ثم يقرأ له الابيات التي في اخر الرسالة وهى عبارة عن ملالاة شعبية….
ما فائدة اتنهدك بصبري
متى اشتعود ذابة زهور عمري
وا دردوا لك بحر تغرقيبه
ومن جلس وسطك نسي حبيبه
ليت الحبيب يقتل ويأكله الطير
ولا بعيد عني يهاوي الغير
كان المغبش يمارس عمله المعتاد ويقوم باستقبال الزوار الذين يقوم بمعالجتهم فالوقت يشير الى الساعة الثانية عشر ظهرا، ولا زال هناك عدد من السيدات اللواتي يردنا مقابلته، يطلب المغبش من برجيتا ان لا تدخل اليه احد وان تحضر له القهوة، فهو يريد ان يستريح قليلا، اثناء هذه الاستراحة قام بفتح الراديو على محطة اليمن وإذا به يسمع المذيع يقول…
هنا اذاعة الجمهورية العربية اليمنية من صنعاء.
ينهض من مكانه ويحتضن المذياع لم يستوعب ما يسمع ويتحرك بالغرفة وهو لا يدري ماذا يفعل، واذا بصوت الفنان محمد مرشد ناجي (المرشدي) يغرد من المذياع بتلك الكلمات الشجية فتتساقط دموع الفرح على خديه دون شعور عند سماعه المرشدي وهو يردد……
بالله عليك يا طير يا رمادي
فش الجناح وردني بلادي
قد لي سنين من الحبيب واكثر
وانا هنا من قريتي مزفر
تدخل عليه برجيتا وهو يرقص والمذياع بين يديه فتندهش….
- انتي مالك اليوم يا مغربش.
- افديك انا وا برجيتا فيحتضنها وهو يقول الجمهورية قامت والامام والظلم وراح.
- مين هذي امام زوجك فين راح.
- يضحك المغبش.. ويقول كان زوج اليمن وطلقته بالثلاث خلوع بلا رجوع..
- انتي شربتي يا مغربش.
- انا شاطير مع الطير الرمادي.. المخاء وا برجيتا
المخاء والحوبان ينادي. - ايش هذي الحبنان.
- الحوبان… انا مسافر طريق الحوبان.
- ليش تسافري يا مغربش انتي هنا معك شغل
في فلوس كتيررررر…. لا تصدقي سأيد عبده
هذي ساجوس خطير. - سعيد عبده مش جاسوس هو صاحبي يكون عاده ما سمعش الخبر…. ودعتك حافظ الودايع….
فيخلع الدجله ويرمي بالمسبحة والشال جانبا ويخذ معه الراديو ويخرج الى الشارع فكان يرقص والراديو يغني حتى وصل الى دكان سعيد عبده.
يعود المغبش مع الكثير من المغتربين العائدين الى ارض الوطن بعد سنوات من الهجرة والاغتراب، وعند وصوله ذراع الابل يقوم مباشرة بتحقيق حلم احلامه، بناء “سفل وخلوة” في الاعلى وامامهما “زولي وصعد” وفي الجانب الاخر من المنزل توجد “ديمة” للمواشي و”دوم للدجاج” وهناك ايضاََ “عريش الحمار وحقف الماء” وبعد ان كتمل البناء يقوم برفع علم الجمهورية في ركن الخلوة.
في صباح يوم مشرق وندي يقوم المغبش بجولة الى اعلى الوادي ويقابل هناك “عبد الرشيد” احد اعيان المنطقة كان متكي تحت اشجار (الاثاب) بحرف الوادي وبجانبه عدد من الاهالي فيقول له عبد الرشيد….
- قالوا انك احسن نصاع يا مغبش…
- مو قا معاك يا حاج عبده.
- اشا شاجربك انك من صدق نصاع.
- بمو اشتجربنا.
- في اثنين غريب جالسين ياذونا ولا خلو لي حالي.. يدخلوا من الكوة حق” المطهار”، شلو عليا الساعة الصليب اللي ارسله لي من عدن ابني محمد وشلو وصال الصابون شلو مكينة الحلاقة ولا خلوا لي شي.. لو قدرت تقتل حتى واحد منهم يمين لنديلك محزم رصاص… هااا هذا البندق وسير انصع ابتهم الان.
يذهب المغبش وبعد ان غاب ساعة زمن عاد يحمل في يديه الغراب مقتولا فيرتفع اصوات الحضور ويقول احدهم والله انه نصاع من صدق… يقترب المغبش من المكان الذي يجلس فيه عبد الرشيد..
- هااا هذا الغراب قدامك مقتول.. هيا هات
المحزم الرصاص. - اول هات شاعاينه هو غراب والا طير السواد.
يقوم عبد الرشيد باخذ الغراب فيمسك بجناحيه واخذ يتفحصه ويقلبه بين يديه… وإذا به يرفع صوته ويقول :
جاهدك لله يا مغبش.. قتلت الطيب وسيبت الشرير…