- عبدالملك الحاج
في وقتِِ متاخرِِ من الليل عاد المغبش من الوليمة سالكا الطريق التي تمر بوادي الزواني.. حاملاً على ظهره “المرفع”، وفي ارداف المحشه المطويه على خصره وضع (المقارع)، يتأبط في ساعده الايسر كلوات القات، اما يده اليمنى فكانت تقبض بمنتصف” صميله” التي عادتا لا يحملها الا اثناء جولاته الليلية…
على ضوء القمر كان يخطو بخطوات ايقاعية متسارعة وهو يدندن بصوته الشجي بمقاطع غانئية تراثية ليتوانس بها من “كشة الزئبة” ووحشة “الغَدرة” ووسوسات المخاوف، فالوقت متاخر واليل عدى منتصفه ولم يتبقى منه سوى ثلثه الاخير.
خلي القمر يطلع
شاشدلي ليل
اجي نصيب طاهش
والا نصيب سيل
والا نصيب
الاخضري على الغيل..
كان طاهش حُمالة في تلك الفترة قد “تنشح” واصبح اشد ضراوة وشراسة من ذي قبل، وكان الجَمالَّة والمسافرون يتناقلون اخبار هذا الطاهش المرعب بشهيته المفتوحة وقوة بطشه وجلافة حجمه وسرعته…
من لا يعرف “طاهش” حُمالة فقد سمع به القاصي والداني.. انه ذاك “الطاهش” الهَمَّام الذي تقول عنه الحكايات والاساطير بانه من تمنى لو كان بشمام بقدر ما هو همام، فلن يدع في البوادي عينا تنام.. فهو من يسابق الريح بسرعته، وتسبقه رائحته الكريهة قبل قدومه، انه الطاهش البطاش الذي اذا نام يفرش احدى اذنيه ويتغطى بالاخرى.
كان المغبش يواصل السير بين اشجار الاثل المتناثرة على امتداد الوادي وبشكل مفاجئ شعر (بقشعريرة) تسري في جميع خلايا جسده، وعندما وقف شعر رأسه، توقف هو عن السير.. لينادى قائلا:
الجار يا عم علي كما انا خبيرك…..
لقد كان يضن بان الذي يتتبعه هو النمر.. استمر بالسير الى ان اوشك الخروج من (العبار) الممر الضيق الذي يعبر فيه الماء والمارة، واذا به يجد الطاهش واقفا امامه وجها لوجه.
اندفع الطاهش باتجاه المغبش لنطحه…. وهذه الحركه عادتا ما يقوم بها قبل الانقضاض على فريسته.. تمكن المغبش من الامساك برقبتة “فجشبها” الا ان الطاهش دار حول نفسه بدورات سريعة ليفقد المغبش سيطرته فيجد نفسه منذوقا في نيسة الجرزاب، لينطلق الطاهش بعد ذلك مسرعا ليبلغ اقصى مدى ثم يعود.. وتسمى هذه الجولة “بالفراحة” التي عادتا ما يقوم بها الطاهش بعد نطح ضحيته فيصدر ذلك الصوت المعروف بالقهقة او الصهيل وينطلق مسافة بعيدة ليعود “كلمح البرق” لالتهامها.
في هذه الاثناء ينهض المغبش سريعا ليلتقط انفاسه ومرفعه والمقارع، ويسرع مهرولا باتجاه المسجد الواقع على مسافة قريبه منه، وقبل ان يصل الى باب المسجد كان الطاهش قد عاد الى المكان السابق، في هذه اللحظة تمكن المغبش من الوصول لفتح الباب والدخول الى المسجد..
بعد ان دخل المغبش المسجد واغلق بابه الخشبي القديم، اخذ يتصنت حركة الطاهش وينظر باتجاه الباب انه يتوقع مباغتته في اي لحظة.. وفجأةً يطير الباب الى امامه بردعه واحدة من رأس الطاهش، انه مصمم على التهام المغبش.. الا ان المغبش اخذ المقارع سريعا ليضرب بهما المرفع بكل قوته، فتراجع الطاهش ليقوم بجولة خاطفة ثم يعود ليقتحم المسجد من جديد.. فيكرر المغبش الضرب على المرفع ويتراجع الطاهش.
سمع (درويش) قييم المسجد صوت المرفع وعندما تحقق من مصدر الصوت تأكد بان مصدره المسجد، فنهض غاضبا من مرقده وهو يقول:
من هذا الملعون ابن الملعون الذي يطبل في بيت الله لا حياء من الله ولاخجل من عباده..
فياخذ عصاته وفانوسه ويتجه نحو المسجد.. وكانت المعركة لا تزال دائرة بين المغبش والطاهش، اقترب درويش من الباب الخلفي للمسجد وهو غاضبا، وعندما عرف بانه المغبش فيقول له…..
ما الذي تفعله ايها الزنديق الفاسق في بيت الله.
- تحسب اجيت اتسلي وَ درويش.. الطاهش كاوشنا يشا يتعشينا.
- لو يكون ما كان محد يطبل ببيت الله.. لكن انتم هكذا، حتى بيوت الله لن تعذروها.. الا لعنة الله عليكم…
- مش وقت الخُطبه وااا درويش.. ادخل فيسع.
- تشانا ادخل بيت الله بلا ما اطهر القدمين.
- يا الله تشهد على درويش.. لا تطهر ارجلك.. الطاهش شنشرك.
لم يستمع درويش لكلام المغبش ويذهب نحو (الحُقف) خزان الماء الذي يوجد بالقرب من المسجد لكي يغسل قدميه…
اخذ درويش (المَغرُف) وانحنى ليغرف الماء من داخل الحقف…. مع عودة الطاهش من فراحته الاخيرة فيشاهد درويش فيتجه نحوه فينقض عليه ويطهشه..
خرج المغبش من الداخل الى امام الباب لينظر ما الذي يجري بالخارج.. واذا به يشاهد درويش في “لقف” الطاهش……….
فاخذ مقارعه وضرب بهما المرفع بتعشيرة وداع لدرويش وهو يقول…..
وداعة الله وااا طاهر القدمين
لا تحسب ضربتي من سلى…..
مساء اليوم الثاني كان المغبش سامراََ على سطح منزله والى جواره زوجته نعمة الحامل في شهرها الخامس لقد كان يمضع في تلك الليلة الكثير من اوراق القات، فهناك ما يشغل باله وتفكيره فهو لم يتحدث مع زوجته التي لم يفارق مشرب المداعة يدها وشفائفها لحظة واحدة منذ بداية السمرة، وقبل منتصف الليل تتركه وتذهب لتنام.
اخيراََ يحصل المغبش على مشرب المداعة ليواصل السمرة بمفرده، لقد وصل الى غمرة النشوة من أثر مفعول القات ودخان التبغ الذي كان يسحبه عبر مشرب القصبة من ذلك البوري (المركوز) برأس المداعة، وبدأ يشرد بذهنه بعيدا ويشطح باحلام التغيير التي كانت تراوده للتخلص من واقعه المزري والخروج من قمقم العبودية والاذلال.. إنه يبحث بين كومة الأفكار المتراكمة في عقله عن حل لوقف تلك الممارسات اللا إنسانية التي تمارس بحقهم دون وجه حق، سوى التعصب العفن المحكوم بعادات وتقاليد فرضت في ظل ظروف معينه منذ الزمن القديم والبائد.
انه يحلم بان يكون له “سفل وخلوة وعريش للحمار وصبل للبقرة وسقاية” للماء… أن يمتلك جربة او عقمة يقوم بزراعتها مثل اي رعوي من الرعية بالقرية، وفي غمرة تلك الاحلام راودته احدى الفكر فيقتنصها في تلك اللحظة ويقرر السفر من اجل جمع الكثير من الريالات الفرنصية وجنيهات الذهب مثله مثل بقية البحارة الذين تركوا البلاد وذهبوا للبحث عن أعمال، انه يريد الرحيل والاغتراب ليجني مالا وفيرا ويعود الى منطقته فيكون السباق من بين جميع ابناء جلدته المهمشين ليكسر تلك القيود المفروضة عليهم، سيعود لكي يقف بقوة امام جبروت الظلم والقهر مطالبا بالعدالة والمساواة، بل لقد ذهب بتفكيره الى ما هو ابعد من ذلك.
لم ينام تلك الليلة وقبيل الفجر ينادي نعمة التي نهضت من نومها وجلست تستمع اليه بدهشة واستغراب وهو يقنعها بضرورة ذهابه الى عدن للبحث عن عمل كي يرسل بالاموال الكثيرة لها ولوليدها القادم كما يفعل الكثير من ابناء القرى المجاورة الذين ذهبوا للعمل هناك ويرسلون لاهلهم بالرسائل والمصاريف مع الجمالة شهريا.
كان جاره (عبده احمد) احد السائقين المشهورين ويمتلك “بابور عنتر” يقوم بنقل البضائع من عدن الى الراهدة وتعز والعكس.. وكان في ذلك اليوم لديه حملة “جلود” سيقوم بنقلها من الراهدة الى عدن، فيذهب اليه المغبش باكرا ولحقت به نعمة الى “المعاينة” لتوديعه… تحرك عبده احمد ومعه المغبش نحو الوادي ووقفت نعمة في ذلك التل ويديها على رأسها تنظر للمغبش وتقول…..
ودعتك يا مغبش حافظ الودايع…. يحفظك ويحميك، ومن كل مصيبة ينجيك.. ويجعل رزقك شنان، وصيتك رنان، وكلمتك مقبول بكل مكان… جعل من الظلمة نورك، ومن الكربة سرورك، يسلمك من كل شر وينجي مستورك.. جعلك بين الحساد والعذال.. والشواني والانذال.. مثل الشهب بالسماء من راوك نزل ماء.
وصل المغبش الى عدن وعمل “حمال” في ميناء التواهي ودكة المعلاء، وتعرف هناك على الكثير من الاصدقاء خلال فترة تواجده، ولفت انتباهه اندفاع الكثير من ابناء المناطق الجنوبية والشمالة نحو السفر الى خارج الوطن، فمنهم من هاجر الى مختلف البلدان، ومنهم من عمل على ظهر السفن المسافرة من خليج عدن الى جميع اقطار العالم، اما هو فقد أنضم الى المجموعة التي تستعد للسفر الى اسمرة والحبشة وتنزانيا ومدغشقر.
قرر المغبش مغادرة عدن والذهاب الى بلاد الله الواسعة للبحث على فرصة عمل في بلاد الغربة لتحقيق احلامه، لقد عزم على الرحيل في الوقت الذي هاجر فيه الكثير من ابناء منطقته في تلك الفترة الخانقة التي انتشر فيها الجوع والخوف والظلم والطغيان فتركوا اهاليهم وهجروا نسائهم وهاجروا بحثا عن لقمة عيش تسد رمق جوعهم ولحظات طمأنينة تهدئ من روعهم، واماكن يتنفسون فبها ولو بالقليل من الحرية.