- عبدالملك الحاج
في فجر الخميس ينهض المغبش قبل بزوغ الغبش، انه على موعد مع فرحة العمر التي طال انتظارها، ففي عصر ذلك اليوم زفت اليه عروسه “نعمة”، وعندما حل المساء وتوافد” المتولمون” الى المكان الذي تم تجهيزه لفرقة الرقص والغناء، ارتفعت اصوات “المغطرفات” والمغنيات وتدق الدفوف والمرافع عند خروج المغبش وفي يده عروسته نعمة من المنزل الى الساحة يتقدمان بخطوات بطيئة حتى يصلان الى المكان المخصص لهما في السهرة… لتبدأ بعد ذلك مراسيم الوليمه التي حضر اليها عشاق الرقص والغناء من مختلف مناطق وعزل الناحية ليشهد “ذراع الابل” ليلة شرح وفن من اجمل الليالي التي شهدتها الناحية.
يدق “قائد المعشار” مسئول الفرقة مرفعه بإيقاع الاستعداد معلنا البدء بافتتاح السهرة الراقصة… ثم يقوم بتغيير الإيقاع وينتقل مباشرتا الى إيقاع الوصلة الاولى وهى رقصة شرح الزبيري. قائد (المعشار) هو من يقود الفرقة من خلال الايقاعات التي يعزفها على مرفعه، فيتحكم بضربات المرافع المشاركة وإيقاعات الدفوف المساعده ونغمات المزمار وألحان المغنيات وحركات الراقصين والراقصات في الساحة.
تبتدي الرقصة الأولى بالشرح فيفتتح الملعب “شاهر سلام” افضل الراقصين المشهورين، حيث
تقدم خطوات ووقف في وسط الملعب ليخرج جنبيته من خفاقها ثم لف دورتين على الملعب وهو يلوح بنصلة الجنبيه، تنهض “هنية” اشهر الراقصات في الفرقة وتتقدم نحو الملعب لتبدأ رقصة الشرح بذلك الاداء الرائع من قبل (هنية وشاهر)، بنفس اللحظة تغرد الاصوات الشجية باروع الكلمات التراثية التي انطلقت من حناجر “مريم ولحظة”….
ثم ينتقل قائد المعشر الى اللحن” الجرابي”، تلتها رقصة “السعادنه”، وتدرج بعدها السلم الايقاعي الى الأعلى حتى وصل الى رقصة “الدلال”.
لتأتي بعدها تلك الرقصة الاكثر اثارة وهى رقصة “العسكرة”… وباشارة فنية من مرفع قائد المعشر ينهي إيقاع رقصة “العسكرة” لينتقل بكل سلاسة الى الايقاع المتسارع معلنا بداية رقصة “الفندي”،
وتليها الرقصة المميزة…” الدودحية”.
قبل الاخير تاتي رقصة (الركلة) التي لا تنتهي الا قبيل الفجر ليأتي بعدها مسك ختام الحفلة بالاغنية الراقصة المعروفة… “نُجيم الصباح” التي تستمر رقصتها حتى طلوع غشاوش الفجر….
الآ لنُجيم الصباح الآ ليلمع بالضياح
الآ لقومين وَ ملاح الآ لجُشين الصراح
الآ لمُقيبل علي ……………… الخ
وبإنتها رقصة النُجيم تنتهي مراسيم الوليمة… ليواصل بعد ذلك المغبش مع معشوقته نعمة حفلتهما الخاصة.
لم يمر على زواج المغبش بنعمة سوى فترة قصيرة حتى تحول “ذراع الابل” ذلك المكان الموحش الى ملتقى انس واستراحة سمر للمارة والحمارة والجمالة والمساوقة وغيرهم من المسافرين عبر طريق الوادي من والى مختلف مناطق الناحية.
“الربوع” هو اليوم المحدد للسوق الذي يقام بمنطقة “حروة”، صباح هذا اليوم يورد المغبش (قبوة) البقرة الذي حصل عليها ورضيعها التبيع مقابل عمله لمدة ثلاثة اشهر مع ” الحاج شاهر” في “المفاليس” ليقوم ببيعهما هناك وشراء حمار صبياني فقد قرر مزاولة مهنة المحَمَارّة، فالحمار يعتبر وسيلة هامة للنقل وارباحه مضمونة..
يصل المغبش الى منتصف الطريق وهو يقود بقرته والتبيع يتبعها… يسمع وقع اقدام يلتفت الى الخلف وإذا بالقادم “سالم حنش” راكبا على ظهر “بغلة الشيخ الحمراء” وعندما لحق به سالم كانت البغلة قد خففت من سرعتها واخذت تجاري المغبش وبقرته والتبيع بالسير… كان سالم يتحدث مع المغبش الا ان تفكيره كان مشغول بالتبيع… فجأة ينهي حديثه مع المغبش وينطلق بالبغله مسرعا نحو السوق واذا بالتبيع ينطلق جاريا خلف البغلة… يحاول المغبش الاسراع بخطواته لكي يلحق بهما، الا انه لم يستطيع.. يصل سالم حنش الى السوق ويقوم بربط البغلة الى احدى الاشجار، بعد وصول المغبش هو بقرته الى السوق ذهب الى المكان الذي تتواجد فيه البغلة ووجد التبيع يقف بجوارها، اراد المغبش ان ياخذ التبع الا ان سالم حنش منعه وصاح في وجهه امام الحضور..
- مو تعمل يا مغبش.
- شاشل التبع حقي.
- منينه حقك… التبع ابن البغلة..
- انت بعقلك.. التبع ابن البقرة.
يتجمع الناس فيخاطبهم المغبش بالقول: - يا جماعة راجعوا لي سالم، التبع ابن البقرة والا
ابن البغلة. - الجميع يشهد بان التبع كان يتبع البغلة عند
دخولها السوق..
تدخل بعض القماطة والدلالين لحل المشكلة وديا فيما بينهم الا ان سالم يرفض التدخل فيتحدث المغبش مخاطبا سالم…
- عيب عليك يا سالم التبع ابن البقرة.
- انزل طلع والا اطلع نزل، التبع ابن البغلة يعني
ابن البغلة، والا سير نحتكم عند قاضي الناحية. - القاضي ما جاش اليوم مريض.
- مو به من مرض.
يقترب المغبش من سالم فيهمس في اذنيه:
منتش داري اجت له امس “الحيض”.
يضحك سالم باعلى صوته امام الحاضرين ثم
يقول :
من ايحين القضاة قد هم يحيضوا يا مغبش!!..
يرد عليه المغبش بالقول :
من لما البغــــال اندين اتباع….
ياخذ سالم حنش التبيع ويذهب به الى قاضي الناحية يلحق به المغبش ويشرح للحاكم قصته مع سالم حنش.
حاكم الناحية :
ما قولك يا حنش..
- سالم حنش :
انا اعترف ان التبيع ابن البغلة… لكن غير معترف ان البقرة وتبيعها ملك المغبش، كيف امتلكهم وهو فقير نقير، مش يمكن لطشهم. - الفقي حيدر :
كلام سالم حقيقة المغبش ساكن جنبنا لا معه لا بقره ولا تبع منين انداهم. - المغبش :
ايوه ايوه… تحسدوا الغريبة على بياض اجبه.
بعد شهادة الفقيه حيدر يأمر الحاكم الشاويش
“شلامش” بالتحفظ على المغبش والبقرة وتبيعها في حوش الناحية وتنفيذ عسكري بقى لاحضار الحاج شاهر الى المحكمة، بعد ثلاث ايام من حجز المغبش يعود العسكري من المفاليس ومعه الحاج شاهر، وبعد ان اكد شاهر بان البقرة والتبيع هما ملك المغبش، اصدر حاكم الناحية حكمه بإخلى سبيل المغبش والبقرة ومصادرة التبيع مقابل اجرة العسكري ونفقة ورعاية البقرة وابنها مدة ثلاث ايام بحوش الناحية.
يعود المغبش ببقرته الى القرية وفي اليوم الثاني يقوم مبكرا ويسلك طريق الوادي حتى وصل الى القرب من البئر، وعندما شاهد (الفقيه حيدر) يتجه باتجاه البئر اخذ المغبش مكانه بين الاشجار القريبة من البئر وهناك ظل ينتظر..
يقترب الفقي حيدر من حائط البئر التي كانت خالية من النساء الا من (فطومة) فتاة يانعه في عنفوان شبابها، وعند وصوله كانت فطومة قد رفعت (الجرة) الممتلئة بالماء الى رأسها، اصطنع الفقي مبرر كي يتحدث معها قبل ان تغادر البئر.
- الفقي حيدر :
ماشاء الله والتحافة.. لمو لوحدك.
تبتسم “فطومة” بخجل الا ان الفقي يباغتها بالقول :
مسرع قا تحملتي هيا انسمي شا حملك..
تندهش “فطومة” من طلب الفقي الغريب فتقول:
قاني محمل.. افسح لي الطريق شجزع. - الفقي حيدر :
يمين ما تندي خطوة الا وانتِ تنسمي الجرة وانا شاحملك.
تضع فطومة الجرة امام الفقي وتقف محتاره بجوار جرتها تتابع تصرفات الفقي باستغراب… ابتسم الفقي ورفع اكمام قميصه وبعد البسملة انحنى ليمسك بالجرة وهو ينظر الى فطومة، وعندما قام برفعها للاعلى “ضرط”.. فأوقف الجرة عند ركبتيه ولم يواصل رفعها، ترتبك فطومة في البداية وعندما استوعبت الموقف تمسك بيدها ببعض اطراف” المقرمة” وتضعها على وجهها وتحشو جزء منها بفمها، وتحاول بقدر الامكان ان تتماسك وتمنع نفسها من الضحك فتقول:
قا ني محمل وا فقي.. قَلت انسمي شحملك..
في هذه اللحظة يخرج المغبش من بين اشجار “الاثاب” وهو يتكركر ضاحكا باعلى صوته… يرتبك الفقيه عند ظهور المغبش فجأه فتسقط الجرة مباشرة من بين يديه الى الارض وتنكسر، فيقترب المغبش منه ثم يقول :
البنت قدها مروح.. وانت “مكرض ومركض” الا والا انسمي شحملك.. هيا مو شورك تروح البنيه فاضي، لا ماء ولا جرة ولا انك قا حملته، وعادك ختمته بــ….. ذلحين سير اندي الجرة حق مرتك.. ثم يخاطب فطومة بالقول:
لا تفتجعيش روحي وقولي لهم الفقي كسر الجرة وسرح يندي بداله.
- فطومة :
لو مهلكش يا مغبش كان الخبر شقتلب ثاني، لكن قا ربي ستر وهتبك ساعة الوقيعه….
تخطو عدة خطوات عائده الى بيتها ثم تنظر خلفها فتشاهد منظر الفقي ولم تتمالك نفسها وكادت ان تسقط على الارض من شدة الضحك. - الفقي حيدر :
انت داري يا مغبش لمو كسرتُ الجرة من سب اادبها لا تكون تجي البير وحدها.. البنت مليح شُفقة لو لقاها واحد وهي لحالها شوقع الخبر مش مليح.. افتهم لك لمو كسرتو الجره. - المغبش :
إلا افتهم لي.. لكن والضرطه.. اين اشتوديه… الخبر قو يكون بالقرية يتلاعصنه المكالف وانت داري بنسيعات النساوي، يالله وهن يحصلين خباره… قا تكون ضرطتك تتنطّع على كل لسان. - الفقي حيدر :
انا داري انت تشاء تستقضي لما شهدت علوك بالمحكمة.. ذلحين لا تكثربش هي كما الا ضرطه وشله الريح والجره دحصت عليا مو اعمله. - المغبش :
تشتي الصدق هن قا دحصين علوك الثنتين…. لا تتهرب ولا تدور لك عذيرات… يذهب المغبش تاركا الفقيه حيدر واقفا مكانه فوق البئر وهو يضحك فيقول:
لك كشيفة تكشفك انت والمعقله حقك يا فقي.