- نزار القاضي
كان نهار اليوم كنهار القيامة عذاباً .. كل شيء كان يسير نحو المصير الكابوس المتوقع على رغم كرهنا له، كنا بانتظار شفاعة واحدة تغير الواقع ربما أمل لم نفقد الإيمان به.
قال الطبيب: إن لم ينم خلال ال٢٤ ساعة القادمة، ربما لن ينم بعدها.
بدأت بالترتيل، يا الله، أنت الكريم فكيف ينزع منا كل شيء بلحظة، ربما أن هناك خطأ ما.
قُلت لنفسي وهو في الطريق إلى غرفة اللامبالاة في مقصلة الجمهوري وكان من على السرير محدقاً بوجوهنا التي ترجته قوة لا يملكها، كانت نظراته إلينا غريبة بعض الشيء وكان يتمتم بشيء سألعن نفسي العمر كله لأني لم أقترب لأسمعه وأحفظه كأسمي، ربما أنه كان يسألنا عن البقية الذين غابوا عن النظرة الأخيرة، وربما أنه قال لاتخافوا .. أو ربما أنه أراد أن يقول وداعاً … لعنة الله عليّ كيف لم أسمعها.
كان يمضي، ونحن نقف على بلاط من اسئلة واسئلة، كيف لكل هذا أن يكون هكذا ؟
والناس، والسجارة، والضحكة، والشباب، والديوان، والساحة، والشبيبة، والحزب، والورق، والقصص، والحكايات، والطفولة، والبيت والبيت القديم في الحي السياسي، ووادي سردود، وتعز، والمراوعة، وعدن، والمجر، والقاهرة، وأيوب طارش وام كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش ونجاة الصغير وأسمهان وعبدالحليم و… !!
(عدى النهار
عدّى النهار والمغربية جاية
تتخفى ورا ظهر الشجر
وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر)
وظهرت أمامي لحظات القاهرة الأخيرة بكل تفاصيلها، خاصة يوم الجمعة وغداء النيل وسهرة المركب …
هربت من التذكر الصادق، لوهم أمل يزودني بالصبر.. وقات، أقبل الليل والبرد واحتمينا منهما بكراسي السيارة، وكلما ازداد الصمت في الشارع ازداد صوت أم كلثوم في صيف الفندق ليلاً :
(وسرت ذكراك طيفــــــــا
هام فى بحــر ظنـــــونـــــى
ينشـــــر الماضـــى ظلالا
كان أنـسا وجمـــــــــــــــالا
فأذا قلبــــــى يشتــــــاق
الى عهد شجــــــــــــونـــى
واذا دمعــــــــــى ينهـــــل
على رجع أنينـــــــــــــــى
ياهدى الحيران
فى ليـــــــل الضنــــــــــى
أين أنــــــــــت الان
بل أين أنــــــــــا)
ترى ماذا يفعل الآن على سريره في الغرفة، كيف لي أن لا أدري، قررت الطلوع للدور الثالث وقرع الباب، خرج القاتل المناوب بزيه الأبيض، سألته، حتى هو لم يكن يدري، أغريته بالمال ليذهب ويرضيني بإجابة، الآن عاد ومنحني بعض أمل وأعطيته قيمته ورقمي ليتصل بي ان حدث شيء ما، نزلت الدرجات وفي راسي كل شيء وكل صورة تمر ببطء على صوته الست:
(آواه يا ليل .. آواه يا ليل
آواه يا ليل طال بي سهري
وسائلتني النجوم عن خبري
مازلت في وحدتي اسامرها
حتى سرت فيك نسمة السحر)
ما ان وصلت، هاهو القاتل يتصل، اصعد الآن …..
الآن ..
نام ؟؟؟
ليش يارب؟؟؟؟؟؟
ظللنا الآن ساعات في جحيم القيامة، ساعات !!
بل سنين, 1440 يوم حتى الآن .
(يا بعيد الدار عن عيني
ومن قلبي قريباً
كم اناديك
اناديك .. كم اناديك
كم اناديك بأشواقي)
لك الحب والخلود والشوق يا أعظم وأجمل البشر في قلبي، لك اعتزازي وفخري وولائي أبي وصديقي ورفيقي وأيقونة حياتي .