- عبدالملك الحاج
وقف على مفترق الطرق يفكر قليلاََ، واذا به يسلك الطريق المتجه إلى “حيفان” ترتسم على وجهه إبتسامه عريضة لكنه يخفي وراء تلك الابتسامة أوجاعه واحزانه التي لازمته منذ ان “نطل” من بطن امه الى ظهر الارض وحتى شب يانعا في “رحارح” الشتات ومرابع الظلم والاضطهاد.
واثناء السير كان يزمجر بتلك الاهات الموجعة التي لا تخلو من ذلك “التفكداد” المطفح، لقد كان منهمكا بالتفكير يستعرض في ذهنه الكثير من الذكريات الحزينه فتبرز امامه وقائع ذلك اليوم الذي تم فيه هدم “ديمته” امام عينيه وهو مكبل الى شجرة السدر المعروفه “بعلبة المغبش” انه يتذكر اللحظات التي تم فيها طرده بتلك الطريقه المهينه، ويتذكر ايضا امه وهى تذرف الدموع وتبكيه بكل الم وحرقه ونظراتها التي كانت تترقبه وهو يسير في طريق اللا عودة، تسيل دموعه على خديه حين تذكر موت امه بحسرتها عليه بعد طرده، ومنعه من دخول القرية لتوديعها الوداع الاخير.
يدور شريط الذاكرة سريعا وتبرز امامه معاملة الاسياد له في موسم الحصاد، حيث كان يقوم بعمل ثلاثه “شقاة” في وقت واحد، وعند وصول الطعام لا يحق له مشاركة الشقاة طعامهم بل ينبذ جانبا كي يأكل وحيدا بجوارهم كون المهمشين لا يأكلون مع اسيادهم حتى وان كانوا شقاة.
لازال شريط الذكريات يستعرض من مخزون ذاكرة المغبش الكثير من الذكريات والمشاهد الاليمة، فيتذكر شتائم الاسياد التي كان يتقبلها بابتسامه عريضه لا تخلو من ملامح التأثر والانكسار، إذ لا يحق له الرد باعتباره منقوص المواطنه، كما لا يحق له الاعتراض عند هتك عرضه امام عينيه من قبل ابناء الاعيان والعقال والمشائخ المتمعشقين الذين يفضلون الكلاب عليهم ويقومون بغسل الاواني التي تأكل بها سبع مرات، اما الاواني التي يأكلون بها المهمشين فيتم كسرها وعدم استخدامها مرة أخرى، انهم يعيشون في وطن كرامتهم فيه مسلوبة وحقهم في المواطنه محظور، وحريتهم عليها الآف القيود.
يطوس المغبش بفكره الشارد اثناء السير حيث كان يناديه الماره الا ان سمعه مفقود وبصره عليه غشاوة، اما الاقدام فقد كانت تتحرك من ذات نفسها دون شعور، فيتوقف فجأة على قارعة الطريق وترتسم على شفتيه ابتسامة ممزوجه بملامح الحسرة، انه يتذكر (غُصون) تلك الفتاة التي لم تفارق مخيلته حتى في وقت الشدة انها رفيقة الطفولة التي وقفت الى جانبه عندما كان اطفال القرية لا يقبلون ان يشاركهم اللعب، لقد كانت تحمل اليه الحلوى والفاكهه و”المليم” كلما عاد والدها “المعدني” الى القريه قادما من عدن، يستأنف السير وهو لا يزال يتذكر “غصون” بشخصيتها القوية والمستقلة، تتعامل مع الجميع دون تمييز، انها تمقت التعالي واحتقار الاخرين وتنظر للجميع بنظرة احترام.
(تدقف) قدم المغبش بحجر في الطريق فيهرول عدة خطوات ثم يتوقف فيرفع رأسه وينظر للامام واذا به يقف على مشارف “حيفان” ولم تتبق سوى مسافة قصيرة حتى يصل الى دار الحكومة التي يوجد فيها حاكم المحكمة وعامل الامام بالناحية، لقد قطع كل تلك المسافه الطويلة بهذه السرعة دون ان يشعر.
عند اقترب المغبش من دار الحكومة شاهد حمار “غالب الهشات” احد المقربين من شيخ القرية ثم يلمح بجانب دار الناحيه احد العساكر الذين يعرفهم منذ ان كان ياتي الى الناحية برفقة الشيخ، فينصحه العسكري بعدم الدخول الى دار الناحية فالشيخ قد اغلق جميع الابواب امامه وارسل لعامل الناحية بالعسل و”الفرنص” وان العامل قد اصدر قبل قليل أوآمر بحبسه وتقييده عند وصوله، الا ان المغبش اصر على الدخول الى دار الناحية مهما حدث، وما ان وصل الى بوابة دار الناحية حتى قام قايد العسكري بالقبض عليه وهو يقول:
- جيت بوقتك يا مغبش وعاد طعم العسل مكانه
بلساني… هيا جاوب العامل. - مو تحسب شتراجع لا قتلت قتيل ولا خرجت
عن طوع الامام.
يمسكه العسكري ويذهب به الى ديوان عامل الامام وكان من بين المتواجدون هناك “غالب الهشات” رسول الشيخ… - قايد العسكري :
يا مولاي العامل تيه المغبش ما نسبر به. - عامل الامام :
ما اداك لا هانا يا مغبش. - المغبش :
كنت شاسير حروة قلت شجزع اسلم على سيدي العامل. - عامل الامام :
ما بلا انداك الباري والمندي كريم… قد به شكوى عليك كنت عاتقتل شيخك يا عاصي والديك. - المغبش :
ما شي ما شي انا الا ركبت فوق البغلة. - عامل الامام :
ما بلا كنت عتقتله. - المغبش :
كنت مخزن بشرو وقلت له وا شيخ انزل من البغله شطلع انا بدالك، هو نزل وانا طلعت. - غالب الهشات :
من ايحين قد انتم تركبوا البغلات، ومنو انت لما تنزل الشيخ من فوق بغلته. - المغبش :
انا المغبش يا هشات جدي ركب الفيل ما وقف
الا بداخل صنعاء… وحكمكم من الشيط لا الشمليط…. عمل لكم كعبة وخلاكم تحجوا لكعبته بالصميل. - عامل الامام :
ايوه ايوه وعادك بتتليقن… عساكر شلوا هذا الخضعي للحبس… قيدو ابوه باثنين قيود. - المغبش :
امرك سيدي لكن انا و”الهشات” بقيد واحد… رجل برجل. - غالب الهشات :
وانا لمه شحتبس واتقيد لا دقدقتو بيتك ولا خرجتك مطرود، انا الا رسول. - المغبش :
سمعت يا سيدي…. دقو بيتي وميتو امي قهر وغلب وطردونا من قريتي، وعادنا زيد احتبس واتقيد. - عامل الامام :
هيا مه يا هشات.. سمعت ما بيقول.. هو صدق منه والا بيتبهتن على الشيخ. - غالب الهشات :
الا يا سيدي خبره صدق. - عامل الامام :
شيخك بيدق بيوت رعية مولانا الامام وبيطردهم، ويدي شوية عسل وثلاثة فرنصي وعاده بيغالطني… لكن سهل انا عاد اوريه كيف يكون يخرج القروش سوى.. شلوا المغبش الحبس وقيدوه وانا عاد استدعي الشيخ وابصر ما عايدي ما لم يمين ما يتقيد الا جنب المغبش.
يمسك العسكري بساعد المغبش ويذهب به الى وسط ساحة دار الحكومة ثم ينادي شاويش الحبس(الجعراني)…فيأتي اليهم حاملا في يديه قيدين ومطرقة….واثناء قيام الشاويش (الجعراني) بتركيب القيود للمغبش يرتفع صوت المغبش مجلجلا يتردد صداه في جميع شعاب حيفان وهو يردد الزامل…
جيت اشتكي والمحكمة مُبَنّد
يا قلة الانصاف يا دين محمد