- ريان الشيباني
في ربيع العام 2019 كنت في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا لحضور فعالية لمدربة أمريكية عملت في وقت سابق ضمن الهيئة الاستشارية لمحكمة الجنايات الدولية. وكانت معها مساعدة أمريكية شابة، غاية في اللطف والجمال. في اليوم الثاني من الفعالية، وفي مصعد فندق “رديسون بلو” وسط العاصمة، تقابلت برجل كان يشبه إلى حد كبير، الشاعر العربي الراحل أمجد ناصر. سلمت عليه، ومضيت.
بعد أيام قليلة، انتهت الفعالية. وفي الوقت المتبقي قبل مغادرتنا ومغادرة المدربين، إلتقينا، أنا وزميلي إياد دماج المساعدة الشابة للمدربة في بهو الاستقبال. كان إياد يطوي على رقبته، شال “الكوفية الفلسطينية” الذي خلفه أبوه، ويحمله في أسفاره كتميمة حظ، وتقدير صغير لذكرى رجل مثقف وكبير.
رأت الشابة الأمريكية الشال، وأبدت إعجابها به، على أنني لاحظت منها معرفتها بالمكانة الرمزية التي يحملها في قلوب العرب. ففاجأها إياد بإعطائها نبذة عمّا تمثله له هذه القطعة من الملابس. ثم أبعد الشال عن رقبته، وناولها إياه، ما أصابها بالدهشة، ورأيت كيف تدفق الدم سريعا إلى محياها النضر. أخذت الشال بعد مقاومة طفيفة ووضعته على كتفها بطريقة الفلاحين اليمنيين. أردتُ تأكيد القيمة التي يمثلها هذا الرمز البسيط لنا، فاستأذنتها وأخذته منها، ولفيته على رقبتها بالطريقة التي تروق لنا.
كنت أطوي الشال على رقبة الشابة، بينما يلمحنا من البعيد الرجل الأنيق، شبيه أمجد ناصر (يبدو في بداية الخمسينات) في نهاية البهو العام بجانب موظفة الاستقبال، فشدّه هذا المنظر الغريب في هذا البلد غير العربي، ما استدعاه التوجه إلينا.
سألنا من نكون. عرفناه بأنفسنا، فأخذنا بالأحضان، وقال باعجاب: أنتم لستم من جيل القضية الفلسطينية، كيف تقومون بذلك؟ وقدم نفسه بالطريقة التالية: أنا فلان ابن فلان، فلسطيني، خبير في الأمم المتحدة، وأنا هنا للتوسط بين الأشقاء السودانيين لاتمام صفقة انتقال السلطة، على إثر نجاح الثورة السودانية في تحييد عمر البشير. وكانت أثيوبيا حينها ترعى هذا الاتفاق. طالبناه -حينها- بأن يأخذوا مطالب الثوار الشباب بالاعتبار، وأن ينحازوا لهم، وقال: أكيد، أنا ابن ثورة، لما لا أنحاز لهم.
لكنه قال أيضاً عندما علم إننا يمنيين: أنا يساري سابق، سكنت في عدن الإشتراكية. ولايزال يتذكّر مقايل القات التي كان يحضرها بدعوة من الرئيس عبدالفتاح إسماعيل، وعدّد لنا أسماء شخصيات عربية ويمنية، للاستدلال على إنه -بالفعل- كان ضمن الجيل العربي الذي مثلت لهم اشتراكية اليمن، فرصة نادرة، لالتقاء الثنائي العربي النافر (السياسي/ الثقافي).
طلب إلينا مزيد من الوقت لتشارك الذكريات، لكنا كنا على عجالة من أمرنا، بسبب أوقات ما قبل المغادرة، ومقتضيات أمور الوداع. كل هذا يجري، والشابة الأمريكية معنا، حتى طلب إلينا الرجل إلتقاط صورة للذكرى.
حينها فقط، رأيت كيف كان الأمر مربكاً وغاية في الصدمة، لنا وللشابة، وقد رأت التهديد الذي تمثله لها هذه الصورة وهي بالشال الفلسطيني، وطلبت برجاء خاص أن يتم مسح الصورة إذا كان قد تم إلتقاطها، لأنها ستشكل لها متاعباً في حياتها المهنية.
كانت محرجة ولا تعرف كيف تعبر عن الأمر، بينما رأينا نحن أن رد الفعل هذا غير متناسب من شابة تعمل في المجال العام الانساني. حكت لنا، إن لم يكن بلسانها، فبعينيها وحمرة الهلع على ملامحها المعنى الحقيقي للعدالة التي يرتجيها ويوجهها الغرب. وكيف أنه -حتى العاملين في المجال الحقوقي والانساني- لا يستطيعون الانعتاق من هيمنة نخب الابتزاز، ويتعرضون لحملات ضغط كبيرة، حين يتعلق الأمر، بحق الفلسطيني في حياته الكريمة وأرضه المستلبة.
شعرت بالسوء وبالحرج في آن، بينما قابل صديقنا الفلسطيني الأمر بالقليل من التعجب، ربما بما خبره في الأروقة الدولية من صدمات شكلت هذه المناعة الفلسطينية الواسعة، ضد ما هو صادم ولامعقول ومهين في قضيتهم العادلة.