- ضياف البَرّاق
أمشي في طريقي إلى المقهى، وصادفني الأملُ فجأةً، فابتسمتُ له كالعادة من دون مصافحة. أشعلتُ واحدةً من سجائر الشَمْلان ومشيتُ أغنّي بصمت. عدد المجانين والمتسوِّلين في صنعاء أكثر من باصات النقل. وأكثر من الشوارع جميعًا. وعدد هذه الباصات مع الدراجات أكثر من الناس. أو بالأصح أكثر من صنعاء. هذه المدينة تُؤكَلُ من كتفها، أو تُنخَرُ من حِقْوِهَا. عددُ النساء أيضًا كثيرٌ جدًّا. رجالٌ يذهبون إلى الأرصفة والمحارق، ونساءٌ يذهبنَ إلى المراثي والجدران الصامتة. الأطفال سُكارى بأحلامهم البسيطة وأحزانهم المُكثَّفَة. لا أخاف إلّا على هؤلاء الأطفالِ وحدهم. أُحِبهم، أنحني لهم وأُصلّي بخشوع. أمشي وأحلم وأغنّي وأهرب سريعًا من مشهد المستقبل المخيف. أحاول الانخلاع عن كل شيء. انخلاعاتٌ لا تُحصى تَعبُرُ من أمامي. انهياراتٌ تحدُثُ في النفوس. ريحٌ عصوف تهب من الخلف والركامُ الحامضُ ينتشر قافِزًا إلى داخل الجراح والعيون. مراراتٌ من كل نوع تنفجر في رأسي، وفي قلبي أكثر من جمرة تشتعِل نارًا. لا أعرفُ أجملَ من مذاق السيجارة الرديئة أثناء المشي. مذاقها هذا هو أملي الوحيد. السعادة مُمْكِنة أحيانًا. أنا بالطبع ذاهبٌ إلى المقهى، لا المصحة. وأبدو لكم كأني ذاهب إلى قبري. أنا يا الله أعشقُ صنعاء بلا كَللٍ ولا مَللٍ، ولا أملِكُ فيها لا وظيفة ولا امرأة ولا حقيبة ولا قطرة أمل. وبثقةٍ مُطْلَقَةٍ، أشعر بأنني لن أملِكَ فيها سقفًا ولا جدارًا ولا رصيفًا ولا حذاءً. إنها صنعاء حبيبتي الغالية، وسأعشقها بصدقٍ حتى موتي، ولن أطلب منها شيئًا. ولا أخاف أن أصيرَ غُبَارًا أو كيسًا فارغًا مدسوسًا في برميل قمامة. أنا في صمتي إلهٌ وفي احتضاري نبيٌّ. أنا مطرٌ بلا هطول، ونهارٌ بلا شمعة. من نزيفي هذا تشرب الفراشاتُ والأزهارُ والأحلامُ الحزينة.
والآن سأدخل المقهى وأنا منهوك من القات البائت والسيجارة (المصنوعة من الكراتين بجودة عالية!) والسَّلْتَة والكُدَم والضوضاء، مثل كل يوم. أيتها القهوة ساعديني لأرتاح قليلًا، ها أنا تعبان أمامكِ من مقاومة الموت بالكلمات. لا حياة بالكلمات (حسب الشاعر وديع سعادة). أنا متعوب، أكثر من ذلك، من شعارات الحرية والتغيير، وأساليب التقديم والتأخير. مشيتُ إلى النهر وغرقتُ في العطش. مشيتُ في الحب وغرقتُ في الدم والجثث. مشيتُ في الريح وتمزّق وجهي. مشيتُ في الحُلم وضاعت الطريق. مشيتُ في الأمل واختنقتُ بالرماد. فتحتُ نافذةً صغيرةً في حزني، في جدار يأسي، فأغلقوها. كنتُ أعيش في شجرة، فأحرقوا جميع الأشجار. هربتُ إلى جميع الجدران، ولكنهم لم يختفوا من السقف. إنهم يجيئون من كل تحت ويقلعوني من كل فوق. أنا لستُ غريبًا ولا عاجزًا، ولكنني أعشق أن أكون مُنفرِدًا. وأعشق أن أموت مُنفرِدًا.
أشعلتُ سيجارتي الأخيرة في المقهى، وقلتُ في نفسي: لا فرق بين دخان السيجارة والأمل الذي نتشبّث به. الوطن أيضًا كذلك. وقلتُ للطاولة: أنا لستُ إلّا هذا الدخان الكئيب. لكنها لم تفهم صراخي الداخلي. الدخانُ أكثرُ حريّةً من الكلام. الطاولة أكثر استقرارًا من حياتي. إنها مرفوعةٌ ومستقرّةٌ أكثر من كَرامة هذه البلاد. لم أشعر يومًا بأني أغلى من هذه الطاولة. حتى من هنا لا أرى أيَّ سَلامٍ قادِمٍ من أجلنا. لا أبحث عن طاولة أخرى. لا أحتاج إلى معنى لحياتي. وغادرتُ المقهى سعيدًا، ومشيتُ عاريًا بين الريح والغبار والدموع… اِسْبقيني إلى فراشي أيتها الطاولة السعيدة، وعانقيني حتى ينزل المطر الغزير ويغسلني من هذا العار الصارخ!