- محمد ناجي أحمد
مؤتمرات الثورة المضادة في ستينيات القرن العشرين
هي ذات القوى التي رحبت ” اشد ترحيب” بعودة الملكيين ، واعتبرتهم رصيدا لها، وهي من قامت في حصار السبعين يوما”28نوفمبر -8فبراير1968م” بنشر الأراجيف وبث الإشاعات وإقلاق الأمن ، وقطع الطرقات، مما جعل القوات المسلحة تصدر بيانا في ديسمبر 1967م، فيه تحذير ووعيد قوي، ومما جاء فيه “…في هذا الوقت بالذات يقوم أعوان المجرمين قطاع الطرق والمندسون في صفوفنا ،والذي أعماهم بريق الذهب على نشر الأراجيف وتريج الإشاعات التي تعكس عقلياتهم التافهة ونفوسهم المريضة المعقدة. إننا نريد أن نقول لهؤلاء الجبناء الذين يعملون بالظلام بأن الشعب وقواته المسلحة على علم تام بنشاطهم التخريبي ، والقوات المسلحة تذكرهم اليوم كيف كانت نهاية الذين أشاعوا الفوضى والقلاقل ، وكيف لاقوا جزاءهم ، ولم ينفعهم أسيادهم ، الذين اشتروا ضمائرهم الميتة بحفنة من الذهب الزائف…”ص207-208-نصوص يمانية-علي محمد العلفي- دار الحرية للطباعة –بغداد 1978.
وجاء مؤتمر (ضباط القوات المسلحة والأمن في صنعاء بتاريخ 11-3-1969م) مؤيدا ومباركا لبيان الشباب الثوري الصادر في 8-3-1969، وبما يتعارض مع بيان مؤتمر الشباب ، الذي عقده الإخوان المسلمين في صنعاء وتعز بتاريخ 9-3-1969م.
ويوصي بيان ضباط القوات المسلحة والأمن “بإتاحة الفرصة المواتية لكل قطاعات الشعب في ان تمارس حقها الثوري المشروع في إرساء قواعد الحكم الديمقراطي الذي يعتبر حصيلة كفاح ونضال قرون طويلة …، إن هذه المبادرة تعتبر أروع مثل في نكران الذات في سبيل تحقيق الديمقراطية” –نصوص يمانية-مرجع سابق.
قوة الإسلام السياسي بالامتيازات السياسية والاقتصادية، فإذا لم يكن لديه امتيازات سياسية واجتماعية واقتصادية فلن يبقى سلطة مهيمنة.
ولهذا ففي عام 1969 حين تلقى الحركيون في الجيش والمقاومة الشعبية ضربة موجعة ، وتم إقصاؤهم من الجيش ،وضرب المقاومة وتفكيكها، ومطاردتهم بالحملات العسكرية ، بدأ الصراع داخل كتلة( قوى خمر )، وتحديدا بين المكونين الحزبيين :البعث من جهة والإخوان المسلمين، الذين ظلوا ما قبل عام 1965 مرتبطين بشكل فردي بحركة الإخوان المسلمين بمصر، ثم تحولوا إلى تنظيم وأسسوا فرع اليمن طيلة سنوات النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين.
فمع عودة عبده محمد المخلافي عام 1965م، عمل قاسم غالب وزير التربية والتعليم على توظيفهم في مدارس تعز ثم عينه مديرا لمكتب التربية والتعليم عام 1966، وسلمه المركز الثقافي الإسلامي، وقد كان قاسم غالب ناصري في ميوله لمصر عبد الناصر، وإسلامي في تكوينه الثقافي. لكن ميوله وانحيازه للرئيس جمال عبد الناصر جعلت جمهورية 5نوفمبر تقصبه وظل منفيا في مصر!
ما إن جاء عام 1969م إلا وكان الإخوان المسلمون في اليمن قد أصبحوا تنظيما ولهم خلاياهم وأسرهم الحزبية في العديد من المحافظات، ولهذا كان الصراع بينهم وبين حزب البعث على الامتيازات السياسية في المجلس الجمهوري والحكومة والمجلس الوطني وفي الإعلام، والمنابر والإذاعة، كوسائل للقوة والنفوذ السياسي على المجتمع والاقتصاد.
لم يكن الصراع على المجلس الوطني والمجلس الجمهوري والحكومة ، وإقحام الدين في الدستور كمصدر وحيد لجميع القوانين إلاَّ تعبيرا عن الصراع بين الدولة الحديثة التي تسعى للتطور ، وبين الدولة الرعوية السلطانية التي تجد امتيازاتها من خلال تسييس الدين ” إن الأمر على العكس في الدولة الحدثة المتطورة ، فالدولة تعلن أن الدين ، مثل المقومات الأخرى للحياة المدنية ، يبدأ وجوده كليا عندما تعلن الدولة أنه دين غير سياسي ، وهكذا تتركه لذاته” ص151-العائلة المقدسة، أو نقد النقد النقدي-كارل ماركس-فريدريك انجلز-ترجمة حنا عبود-دار دمشق.
يقول نابليون بعد الثاني عشر من برومير “أستطيع بحكامي وشرطتي وكهاني أن أصنع ما أريد بفرنسا” وعلى هذا الأساس راكم الإخوان المسلمون في اليمن جهودهم في الأمن والجيش والتربية والتعليم والمسجد ، في الدستور والتشريع، أن يصنعوا أسلمة للمجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة، من خلال التعليم والأمن والجيش ومجالس التشريع والمسجد كوسائل لاحتكار العنف المادي والمعنوي…
يخافون من التاريخ لأنه يقرأ بوعي نقدي حاضرهم ، ويسقط أقنعتهم!
نحن نساعدهم كمرآة ليعترفوا بكينوتهم كما هي في مسارهم وعقودهم الماضية وحقيقة حاضرهم ،وما الذي سيكونون عليه في المستقبل، فلا غيب حين تكون المقدمات بوصلة وطريقا للمآلات…
التاريخ يعلمنا كيف نستشرف المستقبل، وحين نقرأه ونكتب عنه فإننا لا نسرد حكايات وأحداثا فحسب ، إننا نقرأ سلسلة جينية ممتدة من تأسيس الحكايات الكبرى والصغيرة وليست منتهية عند (الزمن الإسرائيلي) ورموز تفاهته الذين أصبحوا نجوم هذه الملهاة السوداوية!
إن أقصر الطرق لتغيير الذات للأفراد والجماعات هي المكاشفة والاعتراف، والنقد لما كنّا عليه وما نحن فيه ، دون ذلك فلن يتم التغيير ، وإنما ستتكرر تراجيديا الظلام والكهنوت…
الكهنوت ليس عرقا، إنه كل أوهام الاصطفاء، أكانت أوهام أبناء الله أو أوهام أبناء العقيدة الصحيحة والفرقة الناجية، أو أوهام الجغرافيات الممزوجة بأساطير التفرد والعبقرية المذهبية والجهوية…
لن تحجبوا عين التاريخ ولسانه ، ولن نسكت بحجج طاغوتية ظلامية تزعم الاصطفاف لمواجهة الكهنوت فيما هي تنطلق من الخوف من التاريخ والإصرار على محوه كونه شهادة كاشفة وحقا مرجأ، تُكلمنا عنه الأمكنة والأحداث، المكتوب والمنطوقة، إنه التاريخ ، إنها الذاكرة في صراعها ومواجهتها لكل أشكال التكميم…
سنظل نحفر في جدار الذاكرة حتى ينبلج الحق، وتتسع ثغرة النور…
إنها حرب الذاكرة في مواجهة عدوانية المحو وتكميم العقول قبل الأفواه!
هناك نقطة مهمة وجوهرية، وهي أن التدليس والالتفاف على حقائق التاريخ يتخذ أساليب متنوعة ، منها الانطلاق في النقد من فكرة تعميم الخطيئة!
هذه تدليس مضر بالحقيقة ولا يثمر إلا شوكا في طريق المعرفة، لأنه يطمس المواقف من خلال تعويمها، ويجعل الجميع خطائين ويطلب من الجميع أن يطلب الغفران!
وهذا ليس منهجا نقديا ولا توصيفا وإنما يقرأ الفكر والمسار والصراع السياسي من منطلق أخلاقي إذا أحسنا الظن ومن نية وسبق إصرار في التدليس إذا سمينا الأشياء بمسمياتها.
فما هكذا يكون توصيف واستقراء الوقائع والأحداث في سياق الصراع السياسي والاجتماعي…
اليمن ليس كيانا منفصلا عن ناسه، إنه الناس في أنساقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، اختلاف وصراع يتخلق منه الجديد…
لن يجدي تحشيد المزاج الشعبوي ضد حقائق التاريخ. الطريق الوحيد هو أن تواجهوا الحجة بالحجة والتحليل بالتحليل والاستقراء بالاستقراء والذاكرة بالذاكرة …
إن صوت التاريخ وإن خفت في مرحلة ما فإنه يظل كامنا حتى تتأتى له الظروف الموضوعية التي يعيد تخلقه فيها من جديد…
إن مطرقة الإرهاب الشعبوية التي يتم التلويح بها في صد الذاكرة ووقائع الأزمنة ليس مجديا، والتحشيد السياسي ضدها بحجة عدم مناسبة التوقيت، والقول بعدم براءة التوقيت ، وأن ذلك بغرض “شق الصف الوطني” الخ، كل تلك التعليلات المتخبطة تؤكد حقيقة واحدة ، وهي أن الحقائق التاريخية ينبغي أن تقال عارية من كل مخاتلة أو تأتأة، وإن أبى من أبى!
يلجم الاشتراكيون كل كتابة فيها مواجهة وسقف عال من مواجهة الذات ، بما يتعلق بتجربة الحكم طيلة عقدين من تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية. ويتخذ الإخوان المسلمون طريقة ضرب التاريخ بمطرقة على الرأس بحجة “عدم شق الصف الوطني” وهم يعلمون أن الصف الوطني لا يبنى على التدليس والمداهنة وإنما على الاعتراف والمكاشفة والمراجعة النقدية والانصاف.
ويطمر قادة التنظيم الناصري ذاكرتهم التنظيمية والسياسية والثقافية فيما يتعلق بالبدايات التأسيسية ومؤتمراتهم الخمسة الاولى التي عقدت من عام 1965 وإلى المؤتمر العام الخامس للطلائع الوحدوية اليمنية في الحديدة عام 1977م طمسا للوثائق ولقرارات المؤتمرات وللبيانات التي تحدد موقفهم من الأحداث السياسية، وللرؤى والتصورات ، الخ.
ما الذي تخجلون منه، ما الذي تخافونه، ولماذا تخشون صوت الذاكرة ؟
ايها الموتى، في الذاكرة حياة للجميع ، لأن تاريخ الحركة الوطنية والحركات المضادة للمسار الوطني هو عماد البناء للحاضر واستشراف المستقبل، دون ذلك سنظل نعيد إنتاج القهر ونكرر تاريخ الطغيان!
لم تعد الأحزاب والقوى السياسية جزرا متفرقة بل كيانات سياسية يتأثر بعضها ببعض، ولهذا زالت الحدود الوهمية بين هذه القوى، ,وتاريخها جزء من التكوين السياسي اليمني الذي هو شأن الجميع.
الصراع السياسي تعبير عن صراع اجتماعي ، ولا يستطيع أحد أن يلغي هذه التباينات والاختلافات لأنها جوهر الاجتماع والتاريخ مرآتها.
فمن الخيانة تكميم صوت الوقائع والأحداث.
من الخيانة محو الذاكرة بحجة أن التوقيت غير بريء.
فمتى كان التوقيت مناسبا ونواياه حسنة فيما تدعون؟
حين يخشى البعض قراءة التاريخ من موقع موقفنا من الحاضر ، ونرمي كل قراءة وموقف من التاريخ بأنه “عمل كهنوتي أو استخباراتي أو تعبير عن حقد وكراهية وصديد” فإن هذه الخشية منبعها رؤية مضللة لطبيعة الصراع.
فمن اللزوجة قول البعض وهو ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين بأن “داخل كل إصلاحي ناصري صغير” أو القول بأن كاتبا ينتمي للإخوان المسلمين لكن مرجعيته ناصرية واشتراكية!
هذه لزوجة وخلط للمواقف ، فالانتماءات والاختلافات الأيديولوجية تعكس موقفا وانتماء اجتماعيا طبقيا وليست مسألة أخلاقية ومعرفة فكرية ورؤى كلما اتسعت أذابت الحدود بين الأيديولوجيات، فالعدالة الاجتماعية في منهاج الإخوان المسلمين تقوم على التفاوت الطبقي كخلق من الله، ويتم إطفاء حسد الفقراء بالصدقات والشفقة والإحسان ، ومن هنا فمن البلاهة بمكان أن أقول بأنني إخواني ناصري ماركسي فهذا من التلفيق الذي لا تزول فيه الحدود والانتماءات الطبقية إلا بمنهج ورؤية اجتماعية اقتصادية تذوب فيه الجدران الشاهقة من تراكم الثروات والاحتكارات والاستغلال…
يبدو لي أن النشأة والتكوين الأمني لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن جعلت هاجس التفسير لكل مكاشفة وتأصيل وتوثيق تاريخي ، وتفكيك لركام التسلط في حاضرنا- ينصرف دوما عندهم إلى مؤمرة استخباراتية كهنوتية تستهدفهم!
لا يتوارى عن حقيقته إلا من يريد تكرار مآسي التاريخ ، فإذا أردتم أن تتقاربوا مع المختلف عنكم فليكن ذلك من خلال تغيير مفاهيمكم للتفاوت الاجتماعي ولرؤيتكم للاقتصاد، ولتاريخكم السياسي الملتحم مع الدولة الأمنية ، ببعديه الداخلي والإقليمي، فالسعودية لم تمول المعاهد العلمية وتوهبن مقررات ومناهج التعليم، ولم تجعلكم قادة في أجهزة الاستخبارات والأمن عبثا ، بل لأنكم يدها التي استطاعت من خلالها أن تبطش باليساريين ، قوميين وماركسيين. وتؤسلم المجتمع والدولة وفق رؤى الإسلام السياسي بأوجهه المختلفة…