- محمد ناجي أحمد
مؤتمرات الثورة المضادة في ستينيات القرن العشرين
لم يتم مواجهة ثورة 26 سبتمبر 1962م بتحشيد الملكيين والمرتزقة الأجانب ،وتوفير السلاح والمال والخبرات لإسقاطها فقط لا غير، ولكن كانت القوى المضادة للثورة السبتمبرية تعي خطورتها كمشروع ثوري اجتماعي واقتصادي وسياسي متكامل وجذري ، ولهذا تحركت في الداخل اليمني لإيقاف الثورة عند مستوى تغيير شكل النظام السياسي ، ولكي لا تتجاوز الثورة السبتمبرية في مشروعها ورؤيتها من إسقاط النظام إلى قضايا الإصلاح الزراعي وتوسيع الشراكة الشعبية في الحكم، أي إسقاط التمثيل الذي تدعيه قوى المشيخ السياسي والديني وبعض الضباط والوجاهات الاجتماعية والتجارية. فهدف الثورة من تأسيس تنظيم شعبي يجعل غالبية الشعب اليمني جزءا أصيلا من السياسة ، وبناء جيش وطني يمثل الشعب وعقيدته الوطنية لا جيشا مشيخيا يمثل قوى طبقية ، ترى نفسها الوريث للنظام المتوكلي، وتسعى لإقامة جمهورية قبيلية تقوم بدور الاسطبل الخلفي لمملكة آل سعود.
يطرح بعض الكتاب/الكاتبات والصحفيين/ الصحفيات بوعي سطحي أن ثورة 26سبتمبر كانت من حيث الرغبة والقرار والإرادة والتحرك مصرية ، من أجل أمنها القومي في البحر الأحمر وباب المندب؛ أي أنها ليست ثورة يمنية ،ولا من أجل تحقيق أهداف وآمال غالبية الشعب اليمني!
بالنسبة للأمن القومي المصري فهو مرتبط بأمن اليمن من خلال عضوية العلاقة الجغرافية موضعا وموقعا، فجنوب البحر الأحمر أثره استراتيجي على مصر في كل العصور القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة، ما قبل حفر قناة السويس وما بعها، فأمن مصر القومي يتمثل بشكل رئيسي بشرقها الشامي وجنوبها في اليمن.
فصلاح الدين الأيوبي حين كان سلطان الشام نور الدين محمود زنكي يتحرك إلى مصر لإخضاع تمرد صلاح الدين-تحرك الأيوبي مباشرة ليسيطر على اليمن. وكذلك صنع محمد علي باشا حين أراد أن يبني ملكا ممتدا وشاملا للشام والحجاز واليمن. وحين ضُرِب مشروعه تمت إزاحته بعيدا عن اليمن والشام والحجاز ، وتقليص جيشه وتدمير صناعاته ومصانعه، وحصر حكمه بما يشبه الإدارة الذاتية لمصر. لهذا من الطبيعي بعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961م أن تفكر مصر بوجودها ، فبريطانيا والسعودية والولايات المتحدة يتحركان في اليمن من أجل تغيير النظام السياسي وفق استراتيجيتهم ومصالحهم في المنطقة ، ومن موقع استشعار الخطر على نظام مصر وكيانه ومن موقع دور مصر العروبي والقومي تحركت مصر عبد الناصر للتنسق مع تنظيم الضباط الأحرار الذي تأسس في ذات العام الذي انفصلت فيه سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، بتآمر سعودي إسرائيلي بريطاني أمريكي… فنسقت مصر مع كافة القوى الوطنية المتواجدة داخل اليمن في صنعاء وعدن وتعز والمتواجدة في مصر من أجل نجاح التحركات الثورية في اليمن، والمتواجدة على الخارطة السياسية وتراكم فعلها الوطني منذ عقود…
كانت الظروف الموضوعية للثورية اليمنية قد تراكمت دماء ودموعا وآلاما وقهرا وفقرا وجهلا ومرضا و وقيودا وسجنا وسجانا الخ، وهي ظروف كانت على موعد مع تأسيس تنظيم الضباط الأحرار كشرط تنظيمي لإسقاط الحكم المتوكلي حكم الدولة الرعوية وتأسيس دولة الشعب ، بقيام النظام الجمهوري…
إن العلاقة العضوية في الموضع والموقع جغرافيا وتاريخيا ومصيرا ومشاعر بين مصر واليمن يجعل ما يحدث في اليمن شأنا مصريا وما يحدث في مصر شأنا يمنيا، من حيث الآثار الاستراتيجية على أمن القطريين ، هنا نصبح مع متطلبات ثورة عربية واحدة، بحلقات متعددة ومتواصلة، وتوليدية…
هذه من مسلمات وحتميات الجغرافيا المترابطة والعضوية بين مصر واليمن…فالسياسة في جوهرها جغرافية وليست تنجيما أو ضرب ودع!
لكن سطحية ما يردده البعض حين يتم التركيز على نصف الحقيقية أي الأمن القومي المصري وتجاهل علاقته بالأمن القومي اليمني والأمن القومي العربي!
وكذلك فهذا من العمى والجهل أو التجاهل للمسار الثوري في اليمن ، الذي بدأ يأخذ شكله المنظم في جمعيات ودعوات لإصلاح النظام المتوكلي منذ ثلاثينيات القرن العشرين، أو حزب سياسي منذ عام 1944، عندما تأسس (حزب الأحرار) في عدن بغرض المطالبة بتغيير النظام السياسي من ملكي وراثي مطلق إلى ملكي دستوري.
ثم تأسيس الأحزاب الوطنية ذات المنحى القومي منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، في عدن وتعز وصنعاء، سواء حزب البعث أو حركة القوميين العرب ،أو تحول الماركسيين إلى حزب عام 1961م،بعد أن كانوا ينشطون في إطار الحركة الوطنية بشكل تحالفات وانضواءات جبهوية منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين.
كل هذا الحراك السياسي انطلق من حاجة وحتمية يمنية للتغيير، من خلال رفع هدف إسقاط الحكم المتوكلي الرعوي الوراثي وقيام نظام جمهوري تكون فيه السلطة للشعب اليمني مصدر السلطات جميعا.
أي نقل السلطة من أبناء (السماء والاصطفاء العرقي) إلى أبناء الأرض اليمنية من فلاحين وتجار وعمال وجنود وحرفيين ومثقفين، الخ.
ولهذا قامت ثورة 26سبتمبر على أكتاف الضباط الصغار ، الذين ينتمون إلى طبقة الفلاحين والحرفيين ، وفيهم ضباط صغار ينتمون لطبقة السادة والقضاء والفقهاء، لكنهم اقتصاديا يعيشون في فقر وعوز، مما يجعل جميع الضباط الذين كانوا ضمن تنظيم الضباط الأحرار ، والذين شاركوا في تفجير الثورة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا ينتمون لطبقة اجتماعية مسحوقة ، وتعاني من الفقر والعوز.
وما إن قامت ثورة 26سبتمبر 1962م حتى تدافع الناس للانخراط فيها وحمل السلاح ضمن الحرس الوطني ، فانضم آلاف الشباب من عدن وتعز وصنعاء وإب والبيضاء والضالع ولحج وشبوة الخ ، وتحرك التجار لدعم الثورة الوليدة، وكذلك أبناء القرى والقبائل، انضموا من جميع المحافظات اليمنية ليدافعوا عن ثورتهم ، واستطاعوا طيلة سنوات 1962-1969 أن يحموا جمهوريتهم من السقوط تحت مسمى الملكية أو مسمى (الدولة الإسلامية).
وكان شعار اليمنيين في حصار صنعاء، بعد خروج الجيش المصري(الجمهورية أو الموت) أعلن من خلالها الشعب اليمني بشبابهم المنخرطين في الجيش الوطني والمقاومة الشعبية تمسكهم المستميت بالنظام الجمهوري ، بأهداف ثورة 26سبتمبر الخالدة. فانتصرت إرادة الشعب اليمني وانكسرت قوى الظلام ، التي أرادت أن تعيد حركة التاريخ إلى الوراء .