- عبدالباري طاهر
قبل 75 عاماً كان اليمن- الاسم المجيد والخالد عبر مئات السنين- مشطوراً وموزعاً بين الإمامة المتوكلية القروسطية، وبين الاستعمار البريطاني، أو فيما يسميه المفكر العربي الدكتور أبو بكر السقاف «اليمن بين السلطنة والقبيلة». والسلطنة والقبيلة اسمان لمسمى واحد. فالسلطنة - في الجنوب- مشيخات بعضُها لا يتجاوز بضعة آلاف، وقد حرص الاستعمار البريطاني على تثبيت كيانها والاعتراف بها وحمايتها وعزلها عن بعضها ثم عن بقية أجزاء اليمن.
المتوكلية وارثة الاستقلال عن الاحتلال التركي لم تكن أحسن حالاً؛ فقد تخلفت في جوانب عديدة عن الاحتلال التركي. العقلية الإمامية المتحجرة قامت على الحق الإلهي، وحصر الإمامة في البطنين، وزعامة روحية مذهبية ترتكز على شيوخ الضمان وعقال المناطق والحارات وعلى جيش قبلي حافٍ عارٍ «ليس له في غير أكواخ الفقير مقامُ »- كتوصيف الشاعر أبو الأحرار محمد محمود الزبيري.
في ليل ما قبل سبتمبر 62 انتصبت أمام اليمنيين مهمتان رائستان: التحرر من الاستعمار، وسقوط الإمامة. دار حوار: لأيهما الأسبقية؟ التحرر من الاستعمار ، أم الخلاص من الإمامة؟
كانت البداية الصائبة تأسيس الجبهة الوطنية المتحدة 1955، والمؤتمر الدائم للطلاب اليمنيين في القاهرة 1956 اللذين ربطا بين الكفاح ضد الاستعمار في الجنوب، والرجعية في الشمال.
سقوط الإمامة في فجر السادس والعشرين من سبتمبر أكَّدَ عُمْق رؤية الجبهة الوطنية المتحدة، ورؤية المؤتمر الأول للطلاب اليمنيين في مصر، كما عكس سلامة التفكير، وصواب الرؤية والنهج.
القذائف التي طالت دار البشائر (القصر الملكي) كانت الشرارة التي أشعلت السهل كله- كحكمة ماوتسي تنج. هَبَّ اليمنييون من مختلف مناطق اليمن لنصرة الثورة، وبناء وطن تضمنته الأهداف الستة للثورة.
الحدث العظيم في صنعاء المغلقة أمام رياح التغيير اتخذ- منذ اللحظات الأولى- البعد الوطني والأبعاد القومية والدولية.
تفجر الصراع في المتوكلية اليمنية الخارجة من ظلمات القرون الوسطى، لتتبوأ مكانتها في حركات التحرر الوطني والصراع القومي والدولي.
لم تمضِ إلا عدة أشهر حتى تفجرت الثورة في الجنوب- ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963- . رمت السعودية بكل ثقلها من وراء الإمام المخلوع محمد البدر والقوى الملكية، وهبت مصر عبد الناصر لنصرة الثورة والجمهورية، وامتد الصراع إلى المستوى الدولي.
هزيمة 67 كانت الكارثة القومية الكبرى التي مست الكفاح القومي العربي كله. بدأ التراجع في البلدان العربية. ففي مصر السادات انتعش الإسلام السياسي والرأسمالية الطفيلية، وقُمعَ اليسار القومي الناصري والماركسي والتقدمي بصورة عامة. لقد انتشت الأنظمة التقليدية، أو فلنقل الرجعية، بانتصار إسرائيل، ومثلت هزيمة 76 كارثةً للقوى القومية في مصر وسوريا والعراق ولشعوب الأمة كلها، وتراجع دورها من الهجوم إلى الدفاع.
“انتفاضة الخبز” في مصر 1977 كشفت هشاشة وكذب ديمقراطية السادات، واستحالة الوفاء بالذي وعد به، كما أكد زيف الطبيعة المدنية لحكمه الأمني القامع، وكانت زيارته للقدس دليلاً على عمق الروابط بين قوى الفساد والاستبداد والرجعية، وبين الاستعمار والصهيونية.
انقلاب 5 نوفمبر 67 في صنعاء ثمرة كريهة من ثمار الـ5 من حزيران 1967، وحصار صنعاء من نفس العام يأتي في السياق. صمود صنعاء الأسطوري، واستقلال الجنوب كان في جانب مهم رداً قومياً على هزيمة 67.
أحداث أغسطس في صنعاء، و13 يناير 86 في عدن، وحروب 72 و79 – مثلت الخط الراجع، وأبرزت الدور القوي لأعداء الثورة والدولة.
استقلال المتوكلية اليمنية في 1918 من القرن الماضي، واستعمار بريطانيا للجنوب 1839 مثَّلا أول إعاقة لبناء دولة يمنية أو دولتين في الشمال والجنوب، وكذلك كانت -أيضاً- حرب 1934بين اليمن والسعودية، بالإضافة إلى الحرب الملكية ضد الجمهورية التي تعتبر من أخطر العوائق ضد بناء الدولة.
مقتل الزعيمين الوطنيين: سالم رُبَيِّع علي، وإبراهيم الحمدي يمثل قطعاً لسياق بناء الدولة، وحائلاً دون تحقيق أهداف الثورتين اليمنيتين: سبتمبر، وأكتوبر.
تدمير الوحدة السلمية بحرب 94 كان بمثابة محاولة للقضاء على طموح بناء الدولة الموحدة والديمقراطية.
ثورة الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا واليمن والبحرين عبرت عن الطموح العربي للانتقال السلمي الديمقراطي للدولة المدنية الديمقراطية، وهو – أيضاً- ما عبرت عنه الانتفاضتان: الأولى، والثانية في فلسطين ضد الغاصب الإسرائيلي لاستعادة الأرض والحق الفلسطيني.
المنطقة العربية كلها تعيش لحظة الاحتجاج المدني السلمي؛ مشهرة سلاح “الشعب يريد إسقاط النظام” .
في اليمن، الحرب المستعرة لا هدفَ لها غير اقتلاع بذور الثورة الشعبية السلمية التوَّاقة لبناء دولة مدنية عصرية وحديثة المضمرة في الميثاق السياسي للجبهة القومية في الجنوب، و التي أومأت إليه أهداف السادس والعشرين من سبتمبر 62، وهو ما تجسد في كفاح الحركة الوطنية على مدى قرن من الزمان.
تفكيك اليمن وتمزيقها والقضاء على النسيج الوطني والمجتمعي يهدف إلى القضاء على حلم اليمنيين في بناء الكيان الوطني الاتحادي والديمقراطي حسب مخرجات الحوار ومشروع الدستور.
غياب الأفق الديمقراطي في تجربة الثورتين اليمنيتين: سبتمبر 62، وأكتوبر 63 “كعب أخيل”، ونقطة الضعف التي انتشر منها فيروس الثورة المضادة في جسم الثورة.
انتشار الانحرافات الآتية من عقلية الغلبة والتفرد والعنف في التجربة اليمنية سبب رائس فيما وصلت اليمن إليه. فعدم قبول الجبهة القومية بالأطراف السياسية الأخرى ممثلةً بالتنظيم الشعبي، وجبهة التحرير، ثم الانقسامات داخل الجبهة نفسها بين اليمين واليسار وما بينهما، وحل الخلافات السياسية بالقمع والتصفيات والمعتقلات- هو ما قاد إلى كارثة 13 يناير 86. أما في الشمال، فحرب السبع سنوات – الحرب الأهلية الممتزجة بالتدخل السعودي-، وانقلاب 5 نوفمبر الرجعي، والتدخل السعودي المباشر بعد ما اصطلح على تسميته بـ “المصالحة الوطنية”، وإقصاء قوى الثورة في الجيش والأمن وكل مؤسسات الدولة، وبالأخص في التربية والتعليم- هي مقدمات الثورة المضادة؛ فقد فرض منهج سلفي شديد التخلف، وأنشئت معاهد دينية وهابية؛ كل ذلك مهد لسلطة صالح، ووضع السلطة تحت أقدام القبيلة والعشيرة والعائلة.
كانت وحدة الـ22 مايو 90 الأمل في استعادة عافية الثورتين اليمنيتين: سبتمبر، وأكتوبر، ولكن صقور الرجعية والتخلف كانوا جاهزين للانقضاض على الثورة.
لكي نقرأ عميقاً سرعة انتصار انقلاب صالح وأنصار الله في 21 سبتمبر 2014 لا بد من قراءة مسار الثورة منذ البدء وإخفاقاتها وانحرافاتها والمؤامرات التي استهدفتها ونقاط الضعف والقوة في تجربتها. فحرب 94 كانت قاصمة الظهر في فشل مشروع بناء كيان وطني وديمقراطي يقبل بالتعددية السياسية والحزبية وحرية العمل النقابي وحرية الرأي والتعبير(الحريات الصحفية، والحريات العامة والديمقراطية)، ثم حروب صعدة الستة، وتسيد الفساد والاستبداد، وتصارع رموز السلطة من حول التوريث، ونهب الثروات- كل ذلك مقدمات انقلاب 21 سبتمبر.
تجربة الثورة لم تمت. فلم تمض إلا بضعة أعوام على حرب 94حتى هَبَّ الحراك المطلبي والسلمي في الجنوب 2007، ونزل الجنود والضباط والموظفون وأبناء الجنوب إلى الميادين العامة في عدن وملاح والضالع ولحج مطالبين برتبهم ومرتباتهم، وكانت هبة حضرموت 2005 بداية التحدي؛ فقد رفض أبناء حضرموت تقسيم محافظتهم، وانتصرت إرادة حضرموت، وانكسر مخطط السلطة لتقسيمها إلى محافظتين.
تحركت تعز وصنعاء 2011 رافعتين شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وتحركت المدن اليمنية في مسيرات احتجاج سلمي وثورة شعبية حقيقية؛ فتعرضت للقمع والإرهاب: مذبحة “جمعة الكرامة” في 18 مارس 2011 في صنعاء قتل فيها أكثر من خمسين شهيداً، وإحراق ساحة الحرية بتعز .
انقسمت السلطة على نفسها، كما حصل عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. وكما التحق كبار المشايخ والقوى التقليدية والضباط بالثورة ومثَّلوا الثورة المضادة- التحق علي محسن والإسلام السياسي والعديد من وزراء وضباط صالح ومحازبيه بالثورة؛ لينقضوا عليها ويحرفوها عن مسارها، كما فعل أسلافهم عبر مسيرة الثورة، وصولاً إلى انقلاب 5 نوفمبر 67.
كان الحوار الوطني الشامل أهم إنجاز تحرزه الثورة الشعبية السلمية بعد إقصاء شباب وشابات الثورة والجنوب من المشاركة في سلطة الوفاق وفيما بعد الكفاءات. حرص النظام القديم الفاسد والمستبد على إعادة إنتاج النظام مع بروز دور علي محسن وأولاد الأحمر والإسلام السياسي (التجمع اليمني للإصلاح).
حرص المنقسمون والمتقاسمون على استمرار المواجهات العسكرية في غير منطقة باعتبارها الخط الأساسي للحسم، بينما راهن الشعب وشباب الثورة على مخرجات الحوار والدستور. لقد راهن المتقاسمون المتصارعون على حسم عسكري، وكان صالح الأسبق؛ فقام متحالفاً مع أنصار الله بالانقلاب؛ فكان الجلاد والضحية!