- محمد ناجي أحمد
جُلُّ الجيل الذي نشأ في العهد المتوكلي كانت حصيلته المعرفية متواضعة ، ليس فقط في كون معارفهم تقليدية ، بل إنهم في ذلك التحصيل التقليدي كانوا أشباه أميين!
الفقيه منهم والعالم والقاضي يعالج الامراض النفسية بـ(الرقية الشرعية)أي بقراءات آيات المس والجان وتعويذات حتى يتم إخراج “الجني المتلبس بالشخص المريض” كان ذلك طيلة الأزمنة الماضية وحتى قيام ثورة 26سبتمبر. صحيح أن هذا الزمن الثقافي الماضوي استمر في وعي وممارسات الإسلام السياسي بكل تلويناته ، حتى أن مقبل الوادعي وعبد المجيد الزنداني وعلماء الزيدية حاملون لهذه الثقافة ،لكن الزمن السبتمبري شكل قطيعة وتميزا ثقافيا وإن تعددت وتجاورت الأزمنة الثقافية الماضوية ، وظلت كامنة بانتظار سيطرتها وتمكنها من السلطة السياسية والثقافية!
حين تخرج الأستاذ أحمد محمد نعمان من زبيد ومنح إجازة في العلوم الدينية عاد إلى تربة ذبحان ، وكان يُعلم التلاميذ العلوم التقليدية ، ويعالج المرضى وأكثرهم من النساء بـ(الرقية الشرعية) وحين أتى أخيه الأكبر بمدرس من عدن اسمه محمد أحمد حيدره ، وكان حيدره يعلم التلاميذ مقررات دراسية وأناشيد يلحنها ويعزفها بالعود ،فقد درس حيدرة في مصر في العقد الثاني من القرن العشرين، فعلم التلاميذ أناشيد مثل :
الوطن الوطن
يا شباب اليمن
ماله من ثمن
غير أرواحنا
وكذلك تلحينه لأناشيد قومية مثل:
بلاد العرب أوطاني
من الشامي إلى يمني
إلى مصر فتطواني
فحدث الصدام بين ثقافتين : الثقافة الإمامية الإقطاعية والثقافة العصرية ، ولهذا خاف سيف الإسلام القاسم بن يحيى حميد الدين من أن تتحول (تربة ذبحان) إلى (لبنان) وقال ” ذبحان ستكون لبنان” فتم سحب الأستاذ حيدرة إلى تعز عام 1935 ، كما بينت ذلك في كتابي ( تحرير التحيزات) الصادر عام 2008م. عن دار نجاد بصنعاء.
كان التعليم تقليديا كما بينه الأستاذ أحمد محمد نعمان في مذكراته، ينطلق من التسليم والولاء للإمام يحيى “كنا نقوم في منتصف الليل إلى المسجد ونقول” اللهم امنح النصر والتمكين والظفر والفتح المبين ، لمن اخترته لإصلاح أمور الدنيا والدين ، مولانا أمير المؤمنين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، آمين”ص30-المذكرات السياسية في اليمن-محمد ناجي أحمد-مطبعة الوحدة –تعز-2012.
ولا يتم تلقين التلاميذ إلاَّ الشعر الذي يمدح “مولانا أمير المؤمنين الإمام يحيى”.
ولهذا كان الصدام بين هذه الثقافة الإقطاعية الإمامية وبين الثقافة الوطنية والقومية التي تشربها الأستاذ محمد أحمد حيدرة في مصر وأراد استزراعها في (تربة ذبحان) فتم سحبه إلى تعز بسبب شكوى وتقرير قدمه الأستاذ أحمد محمد نعمان والحاكم القاضي محمد علي المجاهد والعامل في (التربة)، سلموه لسيف الإسلام القاسم ، فخاف القاسم من أن تتحول تربة ذبحان إلى (لبنان) وتم سحب الأستاذ حيدرة إلى تعز ليكون تحت إشراف أمير اللواء علي الوزير ثم سيف الإسلام أحمد بأمر من الإمام يحيى…
كان الإمام يحيى وأركان دولته المؤسسين، من عبد الله الوزير وعلي الوزير يعالجون المرضى نفسيا بـ(الرقية الشرعية) وعلى نهجهم كان القضاة والعلماء!
فعديدة هي الحالات التي ترويها كتب التاريخ عن معالجة الإمام يحيى للمرضىبـ(الرقية الشرعية) !
أن يجد هذا الزمن الثقافي امتداده لدى مشايخ الإسلام السياسي فذلك تأكيد على أن البنية الثقافية كزمن ثقافي واحدة وإن تصارعوا في المصالح السياسية ، لكنه صراع داخل البنية والزمن الثقافي لا نقيض له.
كانت فكرة الإصلاح كفر يعاقب عليها في العهد الماقبل سبتمبري لسنوات حتى يتوب المصلح عن أفكاره ويعتذر ويمدح “مولانا أمير المؤمنين” وهو ما حدث مع الشاعر محمد محمود الزبيري حين عاد من مصر بداية أربعينيات القرن العشرين ودعا للإصلاح فكان سجنه حتى تاب وأناب ومدح وترجى ووالى، بانتظار أن يجد لنفسه طريقا للهرب مع الأستاذ أحمد محمد نعمان ليفرا مع عدد من الأحرار ويؤسسوا في عدن (حزب الأحرار ) وصحيفته(صوت اليمن) وقبل الصحيفة كتبوا في (فتاة الجزيرة) عن واقع المملكة المتوكلية التي تعيش داخل النفق المظلم!
هو زمن ثقافي كان الأدب فيه يسير بنمط تقليدي من مدح وهجاء وفخر وذم ونسيب وغزل، والتاجر فيه هو الإمام ، وخازن المال هو الإمام ، ومن يعطي تصاريح الدخول إلى المملكة والخروج منها هو الإمام، ومن يعين كاتبا أو فقيها في مسجد هو الإمام، ومن يحتكر الوظيفة من أدناها إلى أعلاها هو الإمام ، ولو تعلق الأمر بمنح سائل ما في زمن المجاعة “نفر” من الطعام(القمح)!.
في كتابه(ملوك العرب) يحدثنا (أمين الريحاني ) عن رحلته إلى اليمن عام 1922، ومقابلته في تعز مع الأمير (علي الوزير) ومن خلال وصفه لوعي وخطاب وخطبة علي الوزير يقدم لنا تصورا عن حال اليمن في العهد المتوكلي ، ثقافة ووعيا ظل ملازما للمملكة المتوكلية حتى قيام الثورة السبتمبرية في 26سبتمبر 1962م.
حين سلم أمين الريحاني رسالة التعريف والتوصية التي كتبها له ولصاحبه قسطنطين –لأمير تعز (علي الوزير) قرأ الأمير الصفة والاسم: السيد أمين الريحاني، فيسأله، من أي البطنين أنت، حسيني أم حسني؟ ” فظنني حضرته من أشراف المسلمين وأراد أن يعرف إلى أي الفرعين أنتسب ، فسأل : هل أنت حسني أو حسيني؟
وقع السؤال عليَّ كالصاعقة ، فبلبل الخاطر مني أول وهلة ، وعقل اللسان…”
كانت الصدمة بسبب تحذيرات الانجليز في عدن لأمين الريحاني وقولهم له بأن المملكة المتوكلية تكره المسيحيين وتراهم كفارا. فكيف إذا عرف الأمير علي الوزير أن محدثه مسيحي درويني!ص100-101.
فكان المخرج من هذه الورطة هو أن الريحاني قدم نفسه قائلا:” أنا عربي يا حضرة الأمير، أحترم كل المذاهب الإسلامية ، وأحب كل العرب ، وأتمثل دائما في مثل هذا الموقف قول الشاعر:
ولكل ربع من ربوعك حرمة
وهوى تغلغل في صميم فؤادي”ص101-102-ملوك العرب.
فاستحسن الأمير الجواب، ثم بدأ “بخطبة رأسها النبي والإسلام وذيلها أولئك الذين يفسدون بالبدع والدين” وعن الافرنج وتدنيس الشرف النبوي ، قاصدا بذلك الشريف حسين وأبنائه.
وعلى هذا النهج وهذه الثقافة كان خطاب ” عبد الوزير) أمير لواء ذمار، والذي قال لهم” هذه بلادنا وهي بفضل حضرة الإمام بلاد العدل والدين والصدق والوفاء…العرب كلهم كذابون ساقطون، يفضلون مال الأجانب على الجهاد في سبيل الله… العرب كذابون ساقطون يحبون المال . وقد يصيرون بعدئذ إن شاء الله مثل أهل اليمن . هذا إذا اقتدى أمراؤهم بمولانا الإمام وأخذوا من أحكامه مثالا لأحكامهم. فتطهر البلاد كلها من الفسق والفجور ، من الزنى والخمر ، من الربا والرشوة كما تطهر اليمن” والعجيب أن الرشوة في اليمن كانت تؤخذ (أجرة)و(خطاطا) وتؤخذ (الرهائن) بأمر من “أمير المؤمنين” كسمة وخاصية لدول العصور الوسطى!.
وفي الموقف من الإسماعيلية يسأل أمين الريحاني مرافقه(السيد محمد):
-وهل في اليمن أناس من الباطنيين؟
فتكون الإجابة:
كان منهم طائفة فأفنيناهم بالسيف.ص117-ملوك العرب.
الموقف من أهل المذاهب والفرق والملل أُريد له أن يعود اليوم سواء في تهجير من بقي من يهود صعدة، أو من بقايا الإسماعيلية ، أو من تحويل (الولاية والوصية) في المعتقد الزيدي والاثنا عشرية إلى دستور ملزم لليمنيين تحت مسمى(الهوية الإيمانية)كبديل لـ(الوطنية اليمنية)، وإلزام الموظفين الذين يعملون في المحافظات الخاضعة لسلطة (الحوثيين) بحضور “الدورات التثقيفية” التي تدور أطروحاتها حول مسألة الإيمان والإقرار والتسليم بـ(الولاية) كعقيدة ومسار سياسي!
هذه ثقافة ما قبل 26سبتمبر كزمن ثقافي، وقد كثفها شعريا محمد محمود الزبيري بتوصيفه لذلك الزمن الثقافي والسياسي:
جهل وأمراض وظلم فادح
ومخافة ومجاعة وإمام
والناس بين مكبل في رجله
قيد وفي فمه البليغ لجام
أو خائف لم يدر ما ينتابه
منهم ، أسجن الدهر أم إعدام
والاجتماع جريمة أزلية
والعلم إثم والكلام حرام