- فارس العليي
مازلت أتذكر في مراحل الابتدائية أمي وهي تدس لي في حقيبة قماشية (غسوس) لوبيا، فاصوليا يمنية وهي نوعين لم أجد صورة النوع الثاني على الانترنت، مع لحوح أو خبز بلدي وبسباس حار(فلفل) هذا كل شيء عن مصاريف المدرسة، وفي الشتاء خبز مدهون بسمن ولبن بلدي في علبه مياه معدنية، كنت وأخي خالد رحمة الله تغشاه نتلذذ براحة منتصف الصف الدراسي اليومي بينما تهشم أظراسنا حبوب الغسوس من على مرتفع أعلى من مبنى المدرسة، وتدور خواطرنا حول باقي برنامجنا اليومي أثناء العودة إلى قريتنا البعيدة.
حينما كنا نسير عائدين إليها تجثم راحة بال عجيبة وبصدق كانت تتملكنا أعظم أفكار الحداثة ومستحيلات التكنولوجيا غير أن الواقع الريفي بظروفه البدائية يمثل مطرقة إنذار تخبرنا بباقي شقاء روتين الفلاح، من بينها أمثال تعزز وطأة يأسنا اللحظوية(سمرة الشاقي خُنث) لكن لم يكن أي شيء امامنا مستحيل مع غبن كبير كنا نعيه ونسمع اهتزازاته في خوافقنا، فكلما تمضي السنون ندرك كم فاتنا من الحلم، وكأن قرفصاء جلست قلوبنا.
الحياة الريفية تجعلك حالم وبامتداده تخسر كل شيء إن لم تنتبه وتكافح، او تذهب إلى حراج العمال وقد فعلنا ذلك لكن بحذر شديد، لم تكن أي فرصة أمامنا فكلها تدفعنا لأن نكون ريفيين ولا عيب بذلك سوى أنه أي الريف يفتقد لمواكبة استمرار الحياة..
أشفق حظي العاثر لكنني مع كل تعثر انتصبت ولم تدع الحياة لنا خيارات كثيرة فمات أبي وتعرض بيتنا للحريق وتعرضت حياتنا لهكذا وخز، وحرقت أيضا مواقف الحياة وشدتها اشياء كثيرة، أكتب الآن من باب واجب إخلاء الضمير لكل ريفي لم تصله أي خدمة من خدمات الدولة الأساسية على الإطلاق، ولم يكن بوسعنا أنا وأخي وأختي التي تسبقني ليس فقط بالسن وانما أيضا بمزاج أسطوري جميل لأنها كانت ساردة بامتياز سوى أنه غير مسموح لها بالدراسة نظرا لبعد المدرسة وصعوبة الوصول اليها، كانت تحفظ دروسنا من خلال السماع، وكنا نحفظ غيضها ولعناتها من هكذا حياة تمنعها من تهجئ أبجديات اللغة وممارسة التفوق.
كل شجرة وحشرة وطير وماشية شهد في تلك الجبال علو تفكيرنا وسمو حزننا وأثناء ذلك نمارس الحياة بسعادة مطلقة في الحقل والرعي وجلب الماء من قمة الجبل من مناطق ووديان سحيقة، وكان الخميس يوم مميز لا ندري لماذا بالضبط وربما اختصرناه إلى جانب طقوس الحميمية اليمنية عودة أبي من المدينة.
ظل الأفق نشط كنهر خالد في قلوب تشبع سعادة النحل وعطائها المطلق الذي لم يدركه سوى القليل في هذه الحياة، وكل فيلم خيال علمي ودراما ومغامرة من هوليوود ليس الا نتاج لوحدة استدعت بالضرورة مؤانسة الحالمين، وإلى جانب قصص أبي وقدرة رسائله الهادفة كان وعينا يتمادى ويزدهر وهذا هو الأمر المرير لتوجهات المعرفة.
أكتب هنا للذكريات، للكون الذي جزع خيفة من أفراحنا وأتراحنا، للهزائم والانتصارات، لإنصاف القرية الوحيدة المهجورة التي لم تصلها سيارة سوى قبل أربع سنوات من الآن وبجهودنا الذاتية، للشوكلاته التي لم تصل لعابنا عندما كان لدينا بعض الأموال ولا وجود هنا للدكاكين ولا الباعة المتجولين بالحلويات
اكتب للحظة النضج المعاتبة والمعاناة التي تسامت في وقت مبكر على طفولة فقدناها للأبد، اكتب لنتوءات مدمية،
هذا حديث مبتذل وغير منصف تجاه ما جرى وما يجري على الإطلاق ….
- من صفحة الكاتب على الفيسبوك