- كتب: خلدون العامري
زاهر حبيب شاب وسيم الطلعة جميل الروح والوعي، نقي الفكر، لطيف الطرح والشرح.
لغوي مخضرم رخيم الحرف أنيق العزف على أوتار الكلمات.
أديب أريب ذاع صيته محليًّا وعربيًّا في مضمار البلاغة والبيان حتى صار يشار إليه بالبنان.
شاعر يجنزر القوافي فى مساراتها بلغة باذخة المعنى، ونظم مدهش المبنى فأينما وجدت قصيدته تصدرت نواصي القافية كحرف ثاقب ونظم غالب.
شاعر فذ، حرص على تناوله عدد من الكتاب والنقاد العرب ونشرت حوله الكثير من الدراسات النقدية في كبار الصحف العربية.
منذ تسع سنوات وبدون سابق إنذار وجد نفسه شاعرًا كبيرًا متصدرًا المراكز الأولى محليَّا
ثم تجاوز الجغرافيا متصدرًا عالمية اللغة، فشِعره لا يعرف سوى المراكز الأولى وهكذا ظلت قريحته تكبر كمتوالية هندسية لا حدود لمداها،، شاعر لصيق بسباق سنين ضوئية متواصلة تخبرنا بأن حالة النبوغ لا فضاء يحجبها.
منذ خمس سنوات كانت معرفتي به افتراضيًّا في مواقع التواصل الاجتماعي وكم كنت فخورًا حين صرت أتبادل الرسائل معه، مع شاعر فذ استطاع أن يحتل مكانة إقليمية عظيمة نقش اسمه عاليًا في سماء الأدب بماء الذهب.
قبل عامين وفي مثل هذا اليوم في مدينة ذمار كان لي عظيم الشرف الالتقاء والتفرد بوقت ثمين معه، كأجمل هدية شرفني بها توأم الروح رفيق العمل الميداني (عبد الكريم الفقير) الغني بكرمه وخلقه ..
خلال جلسة مقيل في منزل كريم وحتى أظفر بأكبر قدر من الاستزادة تحولت إلى محققًا صحفيًّا يخشى أن لا تتكرر فرصة كهذه ورغم ذلك فقد كان صدر زاهر ذا سعة وتقبلني كما أنا متفهمًا لهفتي ومقدرًا شديد إعجابي..
جلسة أدبية أحسبها ربيع الجلسات نلت فيها عصارة فكره وخضت فيها أثرى حوار بقى معشعشًا فى أخاديد الذاكرة وفى عمق الإحساس ..
حينها نذرت قول شهادتي ولكن حين تنضج حروفي وتقوى عضلات كلماتي على إنصاف عملاق كزاهر حبيب، وها أنا أحنث بالنذر ولم أبلغ بعد فمعذرة أيها الأديب زاهر حبيب فالإتحاف سبق الإنصاف وإنه كسيف مسلط يخترق بذبابة سنانه حشا الكبد.
وللأمانة فقد كانت الجلسة أشبه بورشة ثقافية ابتدأناها بالاستماع لقصة حياته استجابة لإلحاحي الشديد عليه، ويبدو أن آلة الزمن قد اخترقت هشاشة جدار التساؤلات وأطفأت جمر الشجون بماء إجاباته المركزة العفوية والصادقة.
خلال تلك الجلسة الثرية النور ومن خلال بوح شفيف واعتراف لطيف فتق كل الحجب الحاجزة فانبجست لمحة تعريفية في صيرورة فيلم وثائقي مالبثت أن أحصي تدفقها الآسر ..
فكانت الحصيلة كالآتي:
زاهر عبدالحبيب مقبل القرشي من مواليد ١٩٩١م في عُزلة القَرَّيشة – محافظة تعز .
خريج قسم صيدلة جامعة ذمار
أتمم قراءات القرآن السبع وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وفي عمر العشرين أصبح شاعرًا له مؤخرًا ديوان “جروح مضارعة”
ولهُ ديوانان مخطوطان خلف الكواليس
عضوًا في عدد من الكيانات الأدبية والثقافية.
نال العديد من الجوائز على المستوى المحلي والعربي
أبرزها جائزة البُردة (العالمية) من دولة الإمارات مطلع العام 2017 وجائزة ( كتارا تويتر) في المقالة الأدبية من دولة قطر.
أصبح مراجعًا لغويًّا للكثير من أدباء وشعراء اليمن والدول العربية الأخرى..
طفولة زاهر:
حتى ربيعه الثامن عاش في الريف صديقًا للجبل وفيًّا للسهل نديمًا للشغب.
وفي كنف أمه حيث كان والده يعمل في محافظة أخرى وعلى خلاف أقرانه من الأطفال عاش زاهر متمرداً على روتين الحياة فمنذ نعومة أظافره تسبب لأمه بالكثير من المتاعب، أتعبها بالبحث عنه في الأزقة والحوانيت ليلًا وعُرف شاردًا في الفيافي والجبال غير آبه بقلقها وبحثها عنه بكرةً وأصيلا، لا يُستدل على وجوده إلا بصراخ أهل القرية إما لنزف دموي في رأسه المليء بالإصابات أو للشكوى من شقاوته التي ظل أهالي القرية يُقسمون بأنها جنوووووون وليست مجرد شقاوة.
إزاء شقاوته أُجبرت الأم على سجنه وفي كل مرة يتمكن من الهرب ويبالغ في الابتعاد موقنًا أنه سيتم إحكام سجنه في المرة المقبلة ولن يعرف الحرية ثانيًا ..
وفي تحد صارخ للسجن المفروض عليه يتسلل خارجا في يوم ماطر وغير مقاوم لمشهد السيل الهادر رمي بنفسه إلى عمق الانجراف إلى حيث لا يدري..
فقط ليمارس هوايته التواقة في اكتشاف المجهول ليشبع فضوله بمعرفة وتجربة كل شيء.
أتعب أمه بالسهر على تطبيب جراحه بعد كل حادثة تصيبه..
لم يدع بئرًا إلا ونزلها لم يدع سيارة تمر إلا وتعلق بها خفية السائق ووقع منها وقاسى الإصابات بشتى أنواعها.
حتى لم يدع لأمه من خيار سوى تكبيل قدميه لتحافظ عليه من مخاطر جنونه وتلافي مشاكل مستقبله وبذلك تبقى آثار التكبيل ظاهرة عليه ردحاً من الزمن.
زاهر في المدينة:
نتيجة لشقاوته انتقل للعيش في مدينة ذمار في كنف والديه وفي ذمار كانت دراسته بجميع مراحلها من الثالث أساسي وحتى البكالريوس في مجال الصيدلة ..لم تخلُ مراحل نموه من صلف الشقاء .. جمجمته الزاخرة بالثراء المعرفي والكم اللغوي لاتخلو مقدار إبهام إما من آثار شج أو من غُرزة خياط .. حيث أن تسلق البنايات كان من هواياته المفضلة التي عاشها في سنوات جنونه والتي كانت حوادث السقوط هي نتيجتها الحتمية.
بعد أن تتعرف العيه وترى جمجمته عن قرب تتعجب كيف له أن نجا من عاهة عقلية كيف له أن تحول إلى رجل نوعي متزن ووقور .
ومما رواه لي زاهر وجاء أيضًا في أحد منشوراته عن سيرته الحياتية:
أما العمارات فقصتي معها استثنائية، ترقى إلى دراما أفلام الأكشن
أولها سقوطي من عمارتنا المكونة من أربعة أدوار وعمري ثلاث سنوات ولكن الحمد لله لم أصب إطلاقًا سوى ببعض الخدوش البسيطة في جبهتي حتى قيل حينها بأن الملائكة هي من تلقفتني.
وآخر قصصي مع العمارات وهي القصة الحاسمة والعلامة الفارقة في حياتي
سقطت من دربزين (سلم الدرج)، كان سقوطي من الدور الثالث وارتطم رأسي مباشرة بإحدى درج سلم الدور الأول لأبدأ بعد هذه الحادثة حياة البرزخ
حيث عشت قرابة الشهرين في غيبوبة تامة.
مستشفيات تعز قالت بأن حالتي ميؤوس منها
وإن عِشت فسأعيش مختل العقل،
فتم نقلي إلى صنعاء وأجريت لي عدة عمليات
لأصحو بعد ستين يومًا وأبدأ بتحريك عينيّٙ والابتسامة دون الكلام
وهكذا تدريجيًّا…
كانت هذه الحادثة بمثابة (الفرمتة) بالنسبة لي
أعادت نظامي البشري إلى طبيعته.
هكذا كانت حياة الأديب زاهر حبيب.
ثم تطرقنا من خلال الجلسة لشتى صنوف الأدب رواية قصة ومختلف أنواع الشعر والنثر حديثه وقديمه أصالته ومدارسه وأبرز رواده نقدًا وقراءة.
في حضرة جهبذ مخضرم كانت اللغة حاضرة وبقوة
جمل بليغة
كلمات محكمة
وحروف فارقة..
جلسة أدبية زاخرة العطاء تخللها التاريخ الحديث ابتداء بقرية البردُّون التي كنت عائدًا منها للتو ضمن عملي الإنساني فوجدتها مناسبة للحديث عن خيرة ما أنجبت من نجمٍ وعلَمٍ يهتدى به كالعظيم عبد الله البردُّوني، ثم عرجنا لتناول أعلام معاصرين كـ بردُّوني العصر يحيى الحمادي وأقرانه وأفردنا مساحة لشعراء الحداثة والكُتّاب كـ الكاتب ضياف البراق كما تناولنا جانبًا من غثاء أدعياء الأدب وهو بريء منهم.
زاهر حبيب .. الفتى المشاغب الذي في ظرف قياسي من ولوجه بوابة الشعر التي طرقها بلا استئذان تحول إلى نابغة بكل ما للكلمة من معنى ..
كلماته ليست كالكلمات، سهل على القلوب هضمها، وعلى الأرواح تشربها، تألفها المشاعر بسهولة ويستسيغها الوجدان كالشهد.
وحتى أُشبع فضول القارئ سأجعل الخاتمة نموذجًا من سهله الممتنع وهي إحدى قصائد ديوانه الأول
وتحمل عنوان:
بَـرقـيَّـــــة عــاجــلــــة
عـلـى خَــدِّ الـغَـرَامِ أراكِ شـامةْ
وفـي ثَـغرِ الـجُنُونِ لـكِ ابـتسامةْ
شِفـاهُكِ دَوْلَتي، نَهداكِ عَرشي
وحُـكمي فـيكِ قد أرسَى نِظامَهْ
فــإنْ ثــارَ الـسُّـمُو عـلَيْكِ -يَـوْمًا-
بـأحـضـانـي تُـبـايـعُـكِ الـفَـخـامةْ
إلــى دُنـيـاكِ تُـرسِـلُني ريـاحـي
وفـي مَـعناكِ تَـسكُبُني الـغَمامةْ
إلَــيْـكِ إلَـيْـكِ تُـشـعلُني دُروبــي
إذا قــامـت بـأشـواقـي الـقـيامةْ
ولـكـنْ كَـيْـفَ يَـسـتَهويكِ حُـزني
ورَمـيي خـلفَ قُـضبانِ الـنَّدامةْ؟!
أمــــا تَــدريــنَ أنَّــــكِ أُغـنـيـاتي
إذا مـا غِبتِ تَهجُرني الوَسامةْ؟!
أمـــا تَــدريـنَ أنَّ الــحُـبَّ فَـــرضٌ
هَـــواكِ أذانُـــهُ وأنـــا الإقـامـةْ؟!
مُـعَذِّبَتي.. على عَهدي سأبقَى
فـتَـنميَتي بـعِـشْقِكِ مُـسـتدامةْ
وقَـلـبُكِ جـاهـلًا سـيَـظلُّ.. لـكـنْ
سيعرفُني ” متى أضَعِ العِمامةْ ”