- أنور العنسي
الصورة لحظة محنطةٌ ، تجميدٌ لواقعة معينة في الزمن ، أو لملمح محدد على الأرض ، في وقتٍ ما.
استخدم كثيرون آلات التصوير لمجرد التقاط الصور ، لكن قليلين هم من أتقن في لحظة انتباه توظيف تلك الآلات في اقتناص الفرصة ، واصطياد الصورة .
المسألة ليست الضغط على زر لأخذ صورة ، لكنها بالنسبة للمصورين المبدعين هي وضع مركز الجمال في ما رأوه زمنياً أو مكانيًا قبل زواله في “إطار” خاص يحدد “مكمن” الأهمية فيه بصرف النظر عن مضمونه .
لعل هذا ما أدركه بوعي جمالي فني ، وبإدراك سياسي وإنساني عال “عبدالرحمن الغابري” حيث كنّا نشاهد ما يشاهده لكن عيوننا لا تملك ذلك “الكادر” الذي تتمتع به عيناه ، وتحيط بجوهر المشهد وليس بما حوله.
قدِم ذلك الشاب النحيل الخارج من محمية “عتمة” الخضراء إلى عالمٍ جديد في ذمار وبعدها إلى صنعاء ، ثم دمشق .. وبعدها إلى عالمٍ يستبدل العين بعدسة ً”الكاميرا” وربما بقية الحواس لاحقاً بوسائل جديدة أخرى.
المهم في الأمر أن “عبدالرحمن” الذي عرفت كان يبدو لي “طاقة” متنوعة من ذكاء تريد التعبير عن نفسها بكل طريقة ممكنة ، ولكن من خلال “الفن” فقط ، ولهذا تعددت انشغالات عبدالرحمن بعد تخرجه من احدى الجامعات السورية بين الغناء والإنشاد والمسرح والصحافة ، لكن إبداعه الأساسي تجلى بوضوحٍ في مهارته لاحقاً في توظيف عدسات التصوير ، وفي تطويعها لخدمة ما يريد.
قرأت في الغرب الكثير عن مصورين معروفين فعلوا تقريباً ما فعله عبدالرحمن مع اختلاف امكاناته بالمقارنة إلى إمكاناتهم الفنية المتقدمة منذ عقود طويلة ، لكن عبدالرحمن قد لا يقل حساً ووعياً عنهم .
عرفت كذلك أن عدداً من كبار المصورين الصحفيين في نظر الجمهور لم يقل أهمية عن أبطال صورهم من زعماء ومشاهير وصناع أحداث ، بل كان المصورون وأبطال الصورة شركاء في ذات التاريخ الذي التقطت فيه الصورة.
غير أن من المؤسف أن أحداً في اليمن أو العالم العربي كان لا يلقي بالاً إلى دور المصور في حفظ وقائع الحياة وتبدلات الأرض ، ولا ينتبه إلى أن المصور الصحفي مؤرخ ، وذاكرة ، و “صاحب إرشيف” يمكن أن تتحول وثائقة المصورة إلى مادة للدراسة والبحث.
أطلق عبدالرحمن مبكراً إسم “شادي” و “زرياب” على نجليه ، ما عكس في رأيي تأثره العميق في دمشق بما عرفه عن فنون العرب في بلاد الأندلس ، وقد كان لكل من إسمه نصيب ، حيث ذابا في مناخ عبدالرحمن واستلهما منه الكثير في إبداعهما الخاص.
عمل الغابري مصوراً صحفياً حيث سجل أحداثاً مهمة ، ووثق لها في إرشيفه على نحو منظم ، لكن أكثر ما يلفت الاهتمام في أعماله هي تلك الصور الأخاذة التي التقطها من الطبيعة لبشرٍ ، ولمدن وجزر وشواطئ وبحار ووديان عكست في تقديري مصادر الوعيِ التي تكونت لديه في طفولته خلال بواكير عمره في “عتمة” المنطقة الأكثر اخضرارًا في قلب البلاد ، والمجتمع الفلاحي الأروع بساطة ومحبة وسلام.
تتراءى لي صور عبدالرحمن في بعض المعارض التي يقيمها أو يشارك فيها هنا أو هناك ، وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي لكن شخصه يغيب ، ويتعذر الاتصال المباشر معه ، وعندما يعود تتوارى صوره لانشغاله جاداً بالعمل على إحياء مخزونه الهائل من المواد “الفيلمية” التي يجتهد لانقاذها ، ولوضعها مجدداً في “فورمات” حديثة ، لكنه لا يلبث أن يحضر مجدداً مع صوره ، بهياً كعادته ، ضاحكًا ، متواضعاً ، وسعيداً بما أنجزه في رحلة الحياة.