- كتب: أنور العنسي
لم يكن لأحدٍ أن أوقد فيّ من الإثارة أمام الفن والجمال مثل الذي فعلته في حياتي الفنانة الفيلسوفة صاحبة الإبداع العالمي المسكوت عنه “آمنة النصيري”.
أخلصت هذه الجميلة لقضية “الجمال” لدرجة تشبه التصوف ، متخليةً عن إغراءات كثيرة في الحياة كانت متاحةً لأنثى جميلة مثلها ، مثلما لم يخلص لها أحدٌ من مدعيها ، فعلت أبدع من ذلك الكثير في حدود ما وَعَيت ، في حدود عالمنا في الشرق على الأقل .
درست آمنة المدرسة الروسية في الفن أوسعتها فهماً حتى العشق، وعتها بعمقٍ حد الاستغراق بها وفيها ، وعملت عليها بإخلاص وهدوءٍ وثقةٍ ودأبٍ وتواضع ، وبتفوق حتى على بعض أبناء وبنات هذه المدرسة ، وتدربت طويلاً في مراسمها ، وأنفقت الكثير من سنوات شبابها تحاول امتلاك ناصية اللون والظل على اللون وفيه ، ومدلولات الألوان في التعبير عن الفكرة ، وتشكيل الأبعاد والخطوط في لوحاتها.
كثيراً ، بل لأيامٍ ، ولشهور ، وسنوات كنت ولا زلت أقف أمام لوحات آمنة ، الورقي منها ثم القماشي ، المصبوغ منها منها بالحبر ثم بتقنيات اللون ، وقفت لسنوات مأخوذاً أمام جمالٍ باذخٍ في ما ترسم ، لكنني عشت كثيراً أيضاً في حالات تحدٍ مع مغزى وغموض وأسرار ما ترسم ، فآمنة لا تمنحك لوحاتها بسهولة بل تمتحنك لبلوغ مقاصدها ، وتختبر ذائقتك في فهم ما ترسم.
منذ عقدين على الأقل وأنا أحتفظ في مكتبتي برسومات استثنائية لآمنة .. رسومات تكاد تستنطق اللون أن يقول لك ما لا يقول ، وتشكيلات من الأبعاد في الصورة لا ترى حتى حين ترى.
غير أن الصورة الأهم في كل ما ترسمه آمنة هي “آمنة” نفسها ، القلب ، والعقل والإنسان التي تقف وراء كل هذا المستوى الرفيع من الإبداع.
لست ناقداً تشكيلياً أو قارئاً جمالياً لكنني أستطيع القول أن في فن آمنة ما يستحق التوقف والتأمل والنظر والدراسة بإمعانٍ ، فالضوء المسكوب من أصابعها لا يمكن له إلاّ أن يضيئ مساحات شاسعة في ما لا ندركه عن القدرات التعبيرية للفنون البصرية ، والفكرة المعبّر عنها في رسوماتها لا تُخفى وإن لم يكن فهمها بالنظرة الأولى إليها ممكناً!
الأهم في أهم ما رسمته “آمنة” كان الانسان في كل تجلياته ومآسيه ، إنسان المدينة والريف ، إنسان من مضى واستودع لوحاتها بعض أسراره ، الإنسان الذي ظل أبداً في الإنسان والأرض والتاريخ والحياة بكل نقائضه وصراعاته وأحزانه ومآسيه التي قد لا تعيها “آمنة” نفسها لكنها تطل واضحةً غالباً بشكلٍ جلي في كثيرٍ من لوحاتها.