- تحليل: بدر العرابي
النص :
النهارُ يمشُطُ المدينةَ
باستثناءِ خصلاتي
يقولُ أحدُ المارّةِ:
شمسُ الحبِّ تجوبُ الشوارعَ
تشبِكُ أطرافَها بأطرافِنا
المألوفةِ لديها
ويقول أيضًـا..محاورًا حسرتي:
جسدُكِ غريبٌ منذُ الأزلِ
( سببٌ كافٍ لتتخطاك ِ)
شمسَ الحبِّ تمهلي
خذي أبجديتي
وهاتي خيوطَكِ
أرمم° بها وجهَ القصيدةِ
هاتي خيوطَكِ
ألفَّ. بها قلبي
ألف بها وجهي
قلبي هَوَّةٌ تبتلعُني
وَجهي تقريرُ قلبي
يفضحُ السر
هاتي جلدَكِ
أمسح° به أهدابَ الأسى
هاتي كلَّكِ
اخلعيني من جسد ِالجليدِ
والبسيني.
من وجهة نظري فهذا النص ينتمي لجنس القصيدة الحداثية ؛ لأن الهيمنة النصية على رقعة النص ؛ تبدو لصالح العناصر والبنى الشعرية / القصيدية ؛ إذ تطغى الصورة الشعرية كحامل بنيوي إطاري للنص ، من البداية حتى الختام ؛ أما البُنى السردية:( يقول أحد المارة + ويقول ) فليست سوى تقانات سردية فقدتْ وظيفتها السردية الرئيسة لحظة انبثاقها في نص رقعته الورقية تنضح بالشعرية / القصيدية؛ نظراً لهيمنة الصورة الشعرية التي تبدو في النص إطاراً يحصِّن ويسوِّر النص من كل حدوده :(العتبة / الوسط/ الختام )؛ إذ تمتد الصورة بشكل إطاري ومتعامد :
النهار يمشط المدينة ( صورة كثيفة الإيحاء ) إطار سميك/ كثيف البروز )
وغير منتهية ؛ إذ ثمّة إطار مقابل لايمكن أن تنبثق الدلالة والإيحاء إلا باكتماله ويتمثَّل في الحد الإطاري الأخير في المقطع :
(باستثناء خصلاتي) .
والأكثف من ذلك أن تتأسس هذه الاستعارة التمثيلية من ملامح إطارية متقابلة ، وملامح فرعية مشغلة في فضاء الإطار الداخلي للنص ، تلوح وتختفي ،ولا نستطيع مقاربتها إلا عندما نستطيع أن نقف بشيء من الهدي _ عند آخر جزئية لمنتهى الصورة الكلية ؛ والتي اتخذت من تقانة التشخيص ( النهار يمشط المدينة ) أي أن النهار أشبه بشخص يسرِّح شعر الفتاة / المدينة.. وتمتد الصورة لتكمل مدخلات هذا التشخيص في الإطار :
( باستثناء خصلاتي )
استثناء النهار خصلات ال ( ي/ الذات)_ ينجز الدلالة ؛ بل ويسقطها ليوتد مدماك ارتكازها :
الاستثناء = الكل ينتفع من النهار/الزمن ويهتم به الزمن ماعداي :
ظلم / لا عدالة / حرمان
أنا مغيبة قسراَ ، في زنازن الليل …انا لايقبلني فضاء السعادة/ النهار الذي يحتوي الكل ..أنا منفية و مصلوبة على حائط الليل .
وتتناسل الصورة وتتكثـَف ويكاد يختفي المشهد بمواربة؛ حين يخفت ومض الصورة المفتتح :
“يقول أحد المارة …”
لكن حينما ننظر بعمق ؛فأن حجب ( ومض المشهد :” النهار يمشط / باستثناء خصلاتي “) _
لم يكن غير محاولة لتفتير المشهد من خلال إبراز اتصال الصورة بفرعية تشخيصية أكبر، تدخل حاسة السمع كمصدر مكمل للمشهد العلوي الذي يرتبط بالبصر كحاسة قبلية ، وتتجسـَد في :(فعل القول ومحتوى ملفوظه ) .
ومن ثم فصيغة نقل الملفوظ ل ( أحد المارة ) ؛ وإن كانت ( مرجعياً) تقانة سردية تنتمي للحقل الصرفي والتركيبي الذي هو الأصل الوظيفي لها كتركيب لغوي _ فإنها تبدو قد خلعتٔ غلافها السردي لتغدو أداة تتسع لتكثيف الصورة وتتحول لعمود ثنائي يحمل ويساند البنى الشعرية التي ترسم المشهد الذي لن يكتمل إلا بتلاشي ومضهُ نهائياً وإعلان نفاذ القصيدة .
إن نقل ملفوظ القول عبر الفعل ومحتوى القول ؛ إنما يدل على رغبة الناص في إبراز حضور الإنسان والإيهام بحضور الواقع ( الكل) الذي تدل عليه ( المدينة / المجاز ذو العلاقة المحلية ( أطلق المحل /المدينة لتدل على من حلَّ فيها ؛
مقابل غياب ال ( ي/الأنا في خصلاتي ) ؛ التي تبرز بإطار صوري فرعي سفلي مقابل للإطار العلوي ؛ يكمل ملمح الصورة الرئيسة التي تنبثق منها الدلالة التي فحواها : الحرمان من الحب / و سلب الحق الشخصي، أو وصول العلاقة العاطفية لصيغة منزاحة عن مألوف العلاقة ومايفترض أن تفضي إليه بنهايتها المستقرة .
لذلك فالنص يضع طرفين :
الكل يصل برعاية ودفع ومساندة واحتواء من الزمن ( النهار )
مقابل:
الأنا ال ( ي) المستثناة
التي قُذف بها خارج حدود الحضور الإنساني الطبيعي فلا تغطيه الرؤية البصرية للنهار الذي يدل على ( الضوء / اللا حلم / الحقيقة / الوصل / النجاح ثم الحضور) ؛ إذ غُيبت الذات ونُفيتْ في خضم (الليل / العذاب / الألم/ثم الغياب) .
ولعل هذا المآل للذات ؛قد قُدَّر له ذلك ؛ ليشغر وظيفةَ مبيتة وسامية مستشرفة قدماَ ؛ ليتخلَّق منه حضور جمالي استثنائي أكثر ومضاً وأكثر شغراً لحيز أكثر سعة وامتداداَ ؛ هو ذلك النص الذي يمضي قدماً بسرعة جنونية لاعتلاء ضفة رابية من الحضور الإبداعي الصاخب .
الإيقاع والدلالة :
النص من حيث الإيقاع _ وتلك طبيعة قصيدة النثر _ يؤطره إيقاع خاص عبر أدوات صامتة لا تتوخى الصخب الصوتي المنبثق من النهايات والحروف ؛؛ بقدر ما يتخذ المزاوجة والمناوبة بين الومضات المتعددة والمتناوبة في رقعة النص ، وحركة ذهن القارئ في إثناء المرور بهذه الومضات المتعددة ؛ وتتجسد هذه الومضات في الصورة وديناميكية امتدادها المنتظمة واتساعها من جهة ، وتفتيرها وخفت وهجها ، ثم انبثاقها من جديد ، من جهة ثانية .ويعدُّ هذا إطار ضمن إطارات أخرى ؛ كالتناهي المعبِّر عن الدلالات المتناهية ؛ التي تبثق إطراباً معنوياً على نفس المتلقي ؛ فتصحب الذهن والوجدان معاً في نوتات متشكلة عبر جمل تتلاحم وتتماسك وتتناهى وتتقابل وتتقاطب نحو: ( شمس الحب / تمهلي )
( خذي أبجديتي / هاتي خيوطك :: خذي / هاتي ).و:
(شمس الحب تمهلي ) و:
(أرمم بها وجه القصيدة )
وما بين هاتين النوتتين الرئيستين، تخفق بشكل جزئي ،نوتات قصيرة تشكلها ظاهرة التقاطب اللغوي في التركيبات اللغوية القائمة على التجاور الدلالي(التضاد ) نحو :
خذي أبجديتي
هاتي خيوطك
خذي Π هاتي
أبجديت_(ي) Π خيوط(ك)
نوتة إيقاعية مزدوجة التركيب ويتمثل الازدواج في التضاد الدلالي الفعلي ( المطابقة )
والتضاد الارتدادي متعاكس الاتجاه بين الضميرين ( ي/ أنا ) و( ك/أنت ) ،
ثم التضاد التعامدي للإطار الفوقي للوحدة الإيقاعية بين النوتة الرئيسة الممتدة أفقياً :(شمس الحب تمهلي) و النوتة المقابلة لها( أرمم بها وجه القصيدة )
وبين النوتات الفرعية الممتدة بشكل رأسي تجاوري :
(خذ ي ابجديت ي )
(هات ي خيوط ك )
ولعل هذا التكثيف الإيقاعي الصامت ؛ يدل على الفوضى التي يمارسها الزمن كحامل للمتناقضات بعد تخليه عن صفته وحركته الخطية المنتظمة ؛ من وجهة نظر الناص ؛ إذ يعبث بتراتبية المفاهيم والحاجات الإنسانية ويقوِّض ويعطِّل شكل الجهات ( الأفقي / والعمودي ) ويجعلها غامضة متداخلة ولا تشبه تشكلها المرجعي الكوني .
ولعل التجاور اللغوي والتضاد الإيقاعي الذهنيين غير الصاخبين _ يتوظفان أيضاَ في إبراز بخل الزمن، بل وانعدام عطاؤه للذات؛ مقابل عطاؤه للكل :
خذي 🙁 الذات تمنح جزءً كبيراً مما تبقى للذات من دالات تواصل وحضور: ( اللغة / وظيفة الكلام) وتطلب مقابله، ما تفتقده من أداة الرؤية ( هاتي خيوطك ) رغبة في الانبثاق من جديد و تحرير الذات من الغياب والنفي في جزر الليل ولججه .
أشكال أخرى من الإيقاع ،لا يمكن أن يحسها القارى إلا إذا طابقتْ وتماهتْ حركةُ تشغيل ذهنه حركةَ وتموجَ النفَسُ الممتد للإحساس المتدفق من الداخل، و المحمول عبر هذه النوتات المستقطبة للذهن .