- كتب: طارق السكري
أدب الهجاء السياسي أصعب أنواع الأدب .. يسقط عنه من لم يمتلك طبيعة ساخرة .
انظروا طبيعة البردوني رحمه الله في مقابلاته التلفزيونية كمثال بسيط كم هي ساخرة وطيبة .. طبيعة تنشر المرح .. وتجعل من المجاز الشعري لافتة فنية للنقد وتقويم المسار.
أذكر مرة في الصف الثاني الثانوي في معهد “الشَّجِرَة” دخل علينا أستاذ بهيُّ الطلعة رفيعاً كنصل الهندوانيّ الأثير.. كان وكيل المعهد الأستاذ القدير / محمد حاتم .. يبدو أن أستاذ مادّة اللغة العربية كان غائباً فشغر المكان نيابة عنه كتب الأستاذ / محمد حاتم على السّبّورة بيت شعرٍ في الهجاء للشاعر الحطيئة يعلمنا من خلاله دقائق استخدام المفردة في البيت الشعري والتصوير البلاغي وكيف يحاول الشاعر أن يؤثر في المتلقي
لينحاز المتلقي إلى صفّه .
هجا الحطيئة قوماً من العرب فقال :
قومٌ إذا اسْتنبحَ الكلبَ ضيفُهُمُ
قالوا لأمِّهِمِ : بولي على النّارِ
وتبدأ الهجمة الشرسة منذ شرارة الكلمة الأولى في القصيدة : ( قومٌ ) وأخذ الأستاذ يسأل : لماذا استخدم الشاعر ” قوم ” مجرّدةً من ألـ التعريف ؟ لقد بلغ الغضب من الشاعر على هؤلاء القوم أن جعلهم بين الناس بلا فضيلة يُذكرون بها فهم قوم هَمَل ليس لهم في الحروب وتقرير المصير شأن ، ولا في السّلم يُستأنس من أحدهم برأي . لا في النفع فينفعوا ولا في الضّرّ فيضرّوا !!
ثم وصف حال كلبهم .
لقد كان من حال شأن العرب والذين هم على طريق القوافل أن يوقدوا النار على الجبال أو قرب منازلهم ليستدل المسافر المتعب إليهم ، فيقوموا بواجبات الضيافة ، وكان هذا التصرف النبيل نموذج مشرق من نماذج الأخلاق العربية .
لكن هؤلاء القوم قد بلغوا من الخسة والبخل مبلغا لم يبلغه أحد . فهم لا يوقدون النار أمام بيوتهم ، وإنما يوقدونها في الداخل ! فإذا اهتدى المسافر عن طريق الصّدفة إلى بيوتهم وكان من غاية أمانيه أن يكون أهل البيت في استقباله أو أن تثِبَ بهم ملكةُ الإحساس ويقظة الضمير أو أن ينبح كلبهم على الأقلّ !
لكن الكلب ويالسوء الحظ ! قد أخذ من شِيمِ أصحابه فهو بخيل .. يتجاهل الزُّوّار .. بخيل حتى على النَّبْحْ !
لكن ماذا نفعل ؟ فالضيف أيضاً معه حق ! أين يذهب ؟ وهل يمكنه أن يترك فرصة العثور على بيت في الصحراء ؟! الكلب لا ينبح ! فإذا به يحاول أن يتسفز الكلب .. أن يتنحنح .. أن يهدد الكلب .. أن يضربه ! حتى إذا انتبه هذا الكلب المنغرز في الأرض فتح فمه بتثاقل ونبح نبحة معتلّة كسولة ، فإذا سمع من في داخل البيت ذلك : تهامسوا فيما بينهم وقالوا لأمهم : أطفئي النار لا بالماء ولكن بالبول !!
إن البخل كالفيروس يشيع وينتشر ويصيب بالعدوى . لقد استطاع الشاعر أن ينقل هذه العيّنة البشعة لهؤلاء القوم البخلاء إلى الناس حتى يزداد المجتمع تمسكا بالأخلاق الحميدة ونفورا من منكرات الأخلاق .
إن قوماً يبخلون حتى بالماء ، فليس على المجتمع أن يقبل بهم أو أن يحترمهم أو أن ينزلهم مكانة .
بهذه اللغة الشعرية الفنّية الرفيعة .. بهذا النقد الإجتماعي الساخر ، يبلغ الشاعر من المتلقي موضع التأثير فيندفع للمكارم اندفاع المحب ، وينصرف عن المخازي انصراف المبغض ، دون أن يضطر الشاعر لأن يستخدم الألفاظ السوقية أو أن يلوّح بأعضائه التناسلية في شعره . لا ينبغي للأدب أن ينزل عن مستواه الراقي حتى في الهجاء والشواهد كثيرة ولا تخفى عليكم قصة البيت الشعري الشهير :
دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعدْ .. فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
عندما جاء بعض الناس إلى عمر بن الخطاب شاكيا من هجاء الحطيئة ، فما درى عمر بن الخطاب – وهو من هو في البلاغة – هل يقصد الشاعر المدح أم الذم ؟ فأرسل إلى حسان بن ثابت فقال : حسان : والله يا أمير المؤمنين لقد سلح الشاعر عليه سلحاً .
دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعدْ .. فإنك أنت الطاعمُ الكاسي