- صلاح الحقب
الجدة صالحة وصغارها القطط ونعجتاها .
ربع ساعة من الحديث مع الجدة ( صالحة ) طوت عشرة أعوام من الغياب والتغيب عن حياة عشتها في الطفولة،حملتها الجدة صالحة بملامحها الجادة والحازمة آنذاك . عادت بي تجاعيد الزمن المترامي على ذات الوجه الوقور إلى تلك الحياة بصورة بالغة الوداعة .
الجدة صالحة ، هكذا نسميها في القرية منذ كنا أطفالا صغار ، وليس لأحد سواها أن يُعنى بالذكر إذا مر هذا الاسم على ذات حديث .
تسكن وحدها في بيت صغير قريب من الجبل بل في خاصرته، وبالقرب من الطريق التي كان يسلكها الرعاة ، ومن رغب في تسلقه والتجول في قمم تلك السلسلة الجبلية الممتدة .
مذ عرفتها وهي تولي القطط اهتمامها البالغ! بل، وتطلق عليها مسمى “عيالي الصغار” ، وأيضا “نعجتين” ترعاهما بالقرب من بيتها أو بوادٍ قريب ، تحادث حيواناتها كما لو أنها تحادث أطفالها ، تعتب على قطة خرجت دون أن تتناول طعامها الذي أعدته لأجلها ، وتمدح الأخرى التي تتناول بشراهة ، إذ تقتسم طعامها مع قططها أيا كان صنفه . تفرغ جم غضبها على كل من أفزع قططها وتلك النعجتان ، فهذا هو عالمها الذي سخرت حياتها لأجله .
أثناء عودتي من قنة الجبل أصيل هذا اليوم ، برفقة الأصدقاء ، مررت بالقرب من بيتها واستوقفني حنين اللحظة تلك إذ ساقني نحو بيتها بحذر من أن أفزع نعجتيها رغم أني لا ألمح وجودها في القرب ، ودعت اصدقائي ،ثم ناديتها :
_ واااا جدة صالحة .
_ أجابت من خلف كومة أحجار : “هااااه ها جدي وابي “
_ واين انتي ؟
_ هانا هه يا عيني ، سرت ارجع النعيجة قد تعبتني .
توجهت نحوها وصعدت مسافة قصيرة ، وجدتها بذات الطابع الذي رأيتها عليه آخر مرة في الطفولة ، ترتدي ثوبها المعتاد (جلابية محَزَم) ذلك الثوب الذي كانت ترتديه النساء في القرية في سبعينيات القرن الماضي ، ثوب قصير مزركش ومطرز ، منسق الصدر والأكتاف ضيق الخاصرة كما لو أن حزاما حريريا يشده ويفرده من تحت الخاصرة .
ألقيت السلام ووضعت قبلة في رأسها ، حملت عكازها في يدها اليسرى ومسكت يدها الأخرى وعدت برفقتها ببطئ شديد شديد ، إذ بات من الصعب عليها المشي بتلك التعرجات الوعرة لإنسان بلغ من العمر هذا القدر .
سالتها : عرفتيني ؟
نظرت في وجهي كما لو أنها تحاول أن تقرأ ملامح أبي أو أمي فتستدرك معرفتها ! أجابتني بابتسامة وديعة :
“لا يا وليدي قد عيوني زويحفات ، ومن انت يا مالي؟” أنا ولد مثنى مسعد ” ابتسمت وقالت : أوووه أنا فديوك أنته مسيعد ؟ أجبتها بذات ابتسامة : لا أنا الصغير ، صلاح . _ أهااااااه يا مالي ها قدك رجال مسبع مربع ، حفظك وطرق لك يا مالي ”
سألتني عن أمي وشكت لي عن المتاعب التي تواجهها في رعي النجعتين وأيضا تمرد القطط ، معبرة عن ذلك بقولها : ما عد لا أدري وين لا يسيرين ، يخرجين الصبح وما عد يرجعين إلا بالعشي ” .
لست أدري أي بهجة تلك التي كانت تخامر قلبي بذلك الحديث الوديع الذي طال الزرع والوديان والمطر وكل شيء أنبته الله في قلبها الخصب بروح الريف الذي ما انفك يزهر ويخضوضر كلما تقدمت بالعمر أكثر.
حفظش ربي يا جدة صالحة .