- مصطفى راجح
كلما نظرت في وجه البردوني أتذكر كلمات حكيم صيني عاش قبل ألفين وخمسمئة عام إسمه لاوتسيو ، وردت ضمن كتابه ” التاو ” يقول فيها :
الحكماء العظماء دهاة وغامضون
لا يُسْبَرْ لهم غور
ولأنهم كذلك ، فإننا لا نستطيع إلا أن نصف مظاهرهم :
” منتبهون كأنهم على جدول من الثلج في الشتاء
بسطاء كأنهم كتلة من الخشب الخام ”
والبردوني يشبه هذا الحكيم الصيني المقيم في أعماق التاريخ
لن يموت ، ولن ينتهي
فلسوف تظل كلماته تضيء المعتم ، وتفتح المغلق ، وتهتك الحُجُبْ
وكل ماهو صلب مثل البردوني يتحول إلى أثير يتغلغل في مسامات الناس والأشياء والفضاء الرحب ، ليعاد إنتاجه بصور وأشكال وأشياء تمثل الإمتداد الحي لروحه النقية ، ورسالته الإنسانيه ، ليبقى حاضراً يملأ الحياة ، تماماً مثلما كان في حضوره ملأ السمع والبصر.
حَوّلَ البردوني «العمى» ، المفترض فيه أن يكون بؤساً وشقاء دائمين ، إلى رؤية معرفية وإبداعية لا حدود لها . كان هذا هو الدرس الأول الذي جسّده عبدالله البردوني الذي حول «عماه» إلى دافع للحَفْرْ في أعماق الذات من أجل خلق متسع رؤية للجميع ؛ هناك في أقاصي ذاته العميقة، حيث تحولت ذاته الى مرآة تعكس كل المشهد الإنساني ونافذة يطل منها اليمنيون على الأفق الواسع والمشهد المتعدد وقد تساقطت منه الأقنعة والرتوش والوجوه المستعارة.
البردوني هو الضمير الجمعي لليمنيين. استمر خمسين عاماً بموقف متسق حيوي ومتجدد ، موقف قيمي وإنساني ووطني، لم تتمكن منه الحياة كآلة إنهاك دائم ولا الحكام كآلة بوليسية تنفُر من استقلالية المثقف الشاعر المبدع وحريته وتفكيره الخارج عن مجالها المغناطيسي وتتوجس منها كخطر داهم يهدد وجودها.
لم يمقت البردوني شيئاً ويزدريه أكثر من ذاك الإحساس بالمقت والإزدراء الذي أمتلأ به داء صالح ونظامه ، ولم يخف هذا الأخير من مثقف وأديب مثل خوفه ورعبه من البردوني ، الذي كان تجسيداً حياً لسلطة الأدب والمعرفة والضمير وقد أجتمعت في هيئة واحدة.
كان البردوني عالماً قائماً بذاته لم يستطع أحداً الوصول إليه ومجاراته فيه ، حتى أن أغلبية من يرفعون اسمه كعنوان ويتمسحون بسيرته وأشعاره ذهبوا في وادٍ غير وادي البردوني ؛ وادي السلطة المهيمنة وشخوصها وامتيازاتها ؛ وادي ذواتهم المتضخمة وليس وادي الوطنية اليمنية والانتماء للحرية كملاذ دائم ؛ وهو الوادي الذي مثل البردوني عنوانه وتجسيده الواقعي الملموس بشخصه وسيرته ومنجزه الشعري والنثري ومجمل مواقفه الناقدة للسياسي والسلطوي بكافة مسمياته المتعاقبة.
كان «ديوانه» أشبه بعدد الصحيفة الشعبية التي ينتظرها الجمهور ولكنها صحيفة حياتهم هنا، صحيفة حياتهم التي تحاول ان تُكَوِنْ رؤية بواسطة الشعر بقدر ما تقدم حصيلة موجزة ورفيعة للفترة الفاصلة بين ديوانين، حصيلة تضيء الداخل والخارج. تستحضر الأحداث العامة الظاهرة على أرضية الذات النفسية لليمني والصورة التي تتكون في ذهنه وتبوح بها وطنيته وانتماؤه وإحساسه بالخارج بمعيار هذا الهيام والطموح الذي بزغ وتفتح في شباب اليمن.. يمن الثورة والجمهورية في الستينيات والسبعينيات.
إذا جاء ديوان البردوني بعد أحداث كبرى فلا يمر بجانبها مختزلاً تأثيرها ووقعها بالاستيهامات الذاتية الغامضة بل بالتناول الفني الصريح والعميق بنفس الأسلوب.
كان حزب الحركة الوطنية اليمنية وعنوان نشاطها العلني، بقدر ما كان النتاج الأرقى للذات اليمنية متشكلاً في صيغة فن الشعر والنثر السياسي والتناولات التاريخية الموسعة والإلمام بالأسماء والأماكن والمناطق والأحداث والسرديات الفنية وتوظيفها كلها في سياقه ؛ أشعاراً ونثراً وكتابات أدبية ومقابلات صحفية.
لقد كتب بالشعر العمودي المقفى افضل مما كتبه الآخرون بالتفعيلة والقصيدة النثرية ؛ أفضل هنا بكل المقاييس ؛ ابتداءً من التعبير عن الإنسان اليمني في زمنه وصولاً إلى اكتمال منجزه الشعري ونحت اسم البردوني كفن قائم بذاته، فن ينطوي على الشعر والنثر والموقف والوطنية اليمنية التي تتداخل مع كل قصيدة وكل كتابة وكل حضور للبردوني.
الآن في ذكرى رحيل البردوني ، وفي مثل هكذا وضع بائس وجحيمي انتصبت فيه أمام اليمن أشباح الماضي وغيلان الجوار كلها دفعة واحدة ، يكون من حقنا كيمنيين أن يعترينا حنين استثنائي ليمني أصيل وكبير ضرب لنا مثلاً ومضى.
حنين إلى المثقف الشاعر الموقف المؤرخ الذي لم تحتويه سلطة ولم يتسع له إنتماء غير الإنتماء لليمن. حنين الى البردوني الذي لم تأسره «الصالونات السياسية والثقافية» والمقايل المكيفة والمكاتب الخشبية المحنطة ، ولم تحتويه «الشلل» الحزبية «الممغنطة» .. حنين الى البردوني صوتنا وضميرنا الذي عاش عمراً كاملاً في مقارعة الزيف بكافة أشكاله وألوانه.