- محمد ناجي أحمد
أبوه منصور أبو أصبع محب للحياة وللفن ، فقد كانت له علاقة بمجموعة من الشبان الأغنياء ، كآل منصور بن نصر وآل باشا في العدين ، كانوا يجتمعون إلى مغنية جميلة شجية الصوت وصغيرة ، تغني للموسرين، ولها فم ملائكي ” ولشدة ولع والدي بها كان ينزع ملابس والدتي الجديدة ويأخذها ويلبسها إياها” وقد قام عامل جبلة ” الشيخ عبد الواحد با سلامة بالقبض عليهم بدعوى “الاختلاط” حين رفضوا أن يعرفوه بالمغنية ، وحين علم القاضي أحمد السياغي نائب الإمام بإب بالقضية ضحك وأمر بإطلاق سراحهم . وفي هذه المغنية نظم الشيخ يحيى منصور بن نصر قصيدة ، نشرها بعد ذلك في ديوانه الذي أشرف على طباعته وإخراجه زيد بن علي الوزير.
لم يذكر أحمد منصور أبو اصبع اسم هذه الفنانة التي تغني للميسورين الأغنياء، وفي الأعراس ، لكنني حين سألت بعض الزملاء من بيت باشا قالوا لي اسمها(نعائم بنت شريان) وكانت فنانة صاحبة صوت جميل…
ووالدة أحمد منصور أبو اصبع كانت تقرأ القرآن وتحفظ بعض الأدعية ، وجدته ” والية بنت مرشد أبو اصبع” كانت مشهورة بالكرم وقدرتها على طهي كميات كبيرة من الطعام في أقصر وقت.
يبدو الواقع الاقتصادي والاجتماعي بائسا والناس بجميع طبقاتهم -باستثناء الحكام ، نواب الإمام وعماله والقضاة وبعض الملاك الكبار للأرض من المشايخ – يعيشون في ضنك وجهل وأمراض ، مثل الجدري والملاريا والتيفوئيد وأمراض الصدر والجرب الخ. حتى أن لقاح الجدري كان يؤخذ عليه أتاوة من الفلاحين لذلك رفضوا دفع الأتاوة واللقاح.
مع البدو الذين كانوا يأتون لمقايضة الملح بالحبوب كانت أماسي حفلات الرقص وإنشاد أشعار شعبية جديدة وقديمة تتحدث عن الشهامة والثأر. وكذلك الأعراس وعودة المهاجرين ” المعدنيين” وهداياهم.
سجن الجد ثلاث سنوات في حجة بسبب قيامه بالإنفاق على أسر بيت دماج وأبو راس لفرار عائليهم إلى عدن وانخراطهم في تأسيس حزب الأحرار، وحب الأب للحياة ، وكرم الجدة ، وشكيمة الأخوال ،وواقع بائس سياسيا واجتماعيا ، وجهل وفقر ومرض ، وحكم سياسي ملكي وإمامي يعلي من كل من هو سيد هاشمي ،الخ، كل ذلك كان واقع نشأة كاتب المذكرات الذي تشكلت فيه اتجاهاته ونمت أفكاره وقناعته وانتماءاته السياسية.
الكثير من الأشخاص أثَّروا في وعي أحمد منصور أبو أصبع : جده ، ثم النقيب قاسم بن حسن أبو راس ، وعبد الغني مطهر ومطيع دماج والقاضي عبد الرحمن الإرياني الخ.
يبدو أن ما قاله الأستاذ أحمد قاسم دماج وهو يحدثنا عن الأدوار الوطنية المحورية لعبد الغني مطهر ، وأنه في كتابه ( يوم ولد اليمن مجده) لم يقل للناس 10% عن دوره الفعلي في الحركة الوطنية، في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين- كان دقيقا، فكل حركة ومحاولة لقلب النظام أو محاولة لاغتيال الإمام أحمد بعد فشل انقلاب 1955م كان عبد الغني مطهر صاحب الدور المحوري في التخطيط والتمويل ، وشراء الأسلحة ، والتحرك بخلايا تنظيمية تجمع المشايخ والضباط والتجار والمثقفين والمغتربين .حتى أن علي عبد المغني حين تم توزيعه إلى تعز بعد تخرجه مباشرة من الكلية الحربية ، وظل ستة أشهر في تعز-كان يشكو من قلة المال فتلقى دعما ماليا مباشر من عبد الغني مطهر ، وكذلك أرسل له بمائة ريال عن طريق الضابط عبد القادر الخطري . يحكي المؤلف عن علي عبد المغني ” جاء إلى مطعم بلقيس بالعقبة بتعز يشكو من قلة المصروف وقد ذهبت إلى عبد الغني مطهر وطرحت عليه أنا والأخ علي شويط وقال إنه قد أرسل بمائة ريال بواسطة عبد القادر الخطري الذي كان مسئولا عن الضباط ، وقد أعطانا عبد الغني مطهر أربعين ريالا وسلمناها للأخ علي الذي كان معه علي بن علي الجائفي وهاشم صدقة وسألناه عن المبلغ المائة ريال فأفاد بأنه لم يستلم سوى ثلاثين ريالا فقط”
يحضر عبد الغني مطهر في هذه المذكرات والمعايشات دينمو للحركة الوطنية ما بعد انقلاب 1955م وإلى قيام الثورة 26سبتمبر 1962م، ليس فقط ممولا للنشاط الثوري والتدبير لاغتيال الإمام أحمد وسيف الإسلام الحسن عديد مرات، وتوزيع المنشورات ، وتمويل التحركات التنظيمية في خلية تعز وإب وخلية صنعاء وخلية الحديدة والتواصل مع الأحرار في عدن ومع المصريين- وإنما كذلك كصاحب قرار إلى جانب عبد الرحمن الإرياني وعبد السلام صبرة. وشراء وتوزيع الأسلحة والتكفل بمصاريف أسر المعتقلين، موظفا علاقته بالمصريين في خدمة الحركة الوطنية ، وباذلا أمواله وما يحصل عليه من المصريين في إنجاح التغيير في اليمن ، والعجيب أن كل من استفاد وعرف الدور الوطني البارز لعبد الغني مطهر من ضباط ومشايخ ومثقفين حين كتبوا مذكراتهم تنكروا وتجاهلوا الدور المحوري لعبد الغني مطهر ، بل ودعمه المالي لهم كأشخاص وأعضاء في الخلايا التنظيمية بالمال والسلاح في حلهم وترحالهم!
هذا الكتاب من مذكرات أحمد منصور أبو اصبع أعطى نُبذا وشذرات عن الجهود الوطنية التي بذلها عبد الغني مطهر كرد معنوي للدور النضالي المحوري الذي مارسه عبد الغني مطهر.
التحق أحمد منصور أبو اصبع بالمدرسة العلمية بجامع جبلة ، وذلك بعد فشل انقلاب 1955م، ودرس على يد ” محمد عبد المجيد المصنف” النحو والبلاغة والأدب العربي والمحفوظات ، ومكث في جبلة عامين. ويبدو أن وضع جبلة كان أفضل من إب ، فالكهرباء كانت موجودة فيها ولو لساعتين في اليوم ، وذلك بفضل طائفة المهرة الإسماعيلية في الهند التي مولتها، والماء كان القاضي أحمد السياغي نائب الإمام قد أوصلها بأنابيب من ينابيع القرية.
وفي جبلة تعرف على العديد من التلاميذ الذين يدرسون في جامع السيدة أروى والقادمين من الضالع وماوية والعدين والحجرية وجبن ويافع ومن المناطق الوسطى.
كان الطلاب في جامع ” أروى” يعيشون في غرف صغيرة بائسة ، لا يوجد فيها سوى الحصير ، ولا يملك الطالب سوى ثوب واحد إذا أراد غسله ظل عاريا حتى يجف!
حين كان الطلاب يذهبون لمشاهدة احتفالات عيد النصر في مدينة تعز كانوا يذهبون سيرا على الأقدام مسافة 50كم، ومن مشاهداتهم في أحد المرات استمعوا للشيخ ” محمد سالم البيحاني ” وهو يلقي قصيدة يطلب فيها من الإمام أحمد إطلاق سراح السجناء ، ومما جاء في القصيدة:
وشفعني وحقق لي مرادي
وضم إليك مسجونا وشارد
وكذلك شاهدوا في مرة أخرى الشاعر محمد سعيد جرادة وهو يلقي قصيدة في مدح الإمام الذي كان يهز رأسه استحسانا.
يتزاحم الناس على دكان بيع (الكشت) و(البرعي) وفي الظهيرة على اللبن الرائب القادم من القرى، أما شرب الشاي فذلك من علامات الترف، واللحم لا يحصلون عليه إلا نادرا.
يدرس الطلاب في جبلة المذهبين الشافعي والزيدي ، لكن الطالب الذي يدرس المذهب الزيدي يعطى له قدحا من الذرة وريالين في الشهر ، ومن يدرس المذهب الشافعي يعطى له نصف قدح من الذرة فقط لا غير منحة شهرية . ومع ذلك كان الطلاب يفضلون دراسة المذهب الشافعي ،رغم ضعف العائد المادي.
في جبلة يلتقي (أحمد منصور أبو اصبع) بـ(أحمد قاسم دماج ) في جامع ” أروى” وقت الصلاة ، وقد نزل لدى السيد حسين بن احمد إسماعيل المتوكل ” ونحن وآل دماج وأبو راس نكاد نكون أسرة واحدة”.
وصل أحمد قاسم دماج قادما من ” موزع” من عند عمه (مطيع دماج) عامل ناحية ” موزع” بعد أن عاد مطيع من عدن عام 1946 بسبب خلافه مع الأستاذ النعمان…
يرى صاحب (المعايشات )أن أحمد قاسم دماج تعلم على يدي عمه مطيع دماج اللغة العربية بالطريقة الحديثة “فكان مطيع دماج ضليعا في اللغة التي درسها على يد القاضي ” عبد الملك الغشم” مدير مدرسة جامع أروى العلمية في عهد الإمام يحيى…
باعتقادي أن أحمد قاسم دماج تعلم اللغة العربية حين كان رهينة في قلعة القاهرة بتعز على يد الأستاذ قاسم غالب ، الذي أصبح بعد قيام ثورة سبتمبر نائب وزير التربية والتعليم ووزيرا للتربية والتعليم . فقد كان قاسم غالب معتقلا في قلعة القاهرة بتعز منذ عام 1939 إلى 1953م بسبب توزيعه منشورات تندد بأخذ أراضي الناس بتعز . فمطيع دماج من خلال قراءتي لبعض رسائله المكتوبة بخطه كان يعتورها العديد من الأخطاء التي تجعله ليس ضليعا بالنحو واللغة والإملاء، وإنما كغيره من العمال ذوي التحصيل العلمي الذي يساعدهم على القراءة والكتابة والحساب وإدارة وتصريف أمور الناس ، وكانت لديه ملكة الكتابة فقد كتب العديد من المقالات في صحيفة فتاة الجزيرة حين كان بعدن طيلة 1944وإلى عودته 1946م.
في عام 1958 خرجت مظاهرة في العديد من المدن اليمنية ، صنعاء تعز عدن وإب ، قام الشباب ” بمظاهرة مع كثير من الشباب لتأييد الوحدة بين مصر وسوريا هتفت للوحدة وسقوط الرجعية ، وعلى إثرها سيق إلى حبس تعز عبد الحفيظ بهران ويحيى بهران وحبس في صنعاء عبد العزيز الحبيشي ومحمد علي الربادي ومحمد عبود باسلامة وعبد الله المهتدي ومحمد منصور الصنعاني وعلوي المهتدي وإسماعيل الصراري وحمود حويرث وأحمد شعيب وعبد الرحمن العنسي وحمود المخدة والحاج أحمد المخادري ( وهرب عبد الله الوهابي ومحمد الغشم من السجن) وقد كان استقبال عبد الله السلال وهاشم طالب وطلاب المدرسة العسكرية والمدرستين العلمية والمتوسطة للمعتقلين عند وصولهم إلى صنعاء استقبالا لا يليق.