- صفا ناصر
في البلدان المنكوبة بالحروب والنزاعات تصير الحاجة إلى الأعمال الإغاثية ضرورة وجودية. وفي اليمن، البلد الذي تنثال عليه الكوارث، يعيش عمّال الإغاثة الإنسانية في كل ساعة مشاهد القتل والخراب، يتنشّقون رائحة الدم والبارود والجثث المتفسّخة. الأمر الذي له كبير التأثير على صحتهم وسلامتهم النفسية.
…………………………
يأتي مسرعًا من بعيد، يحمل في يديه كتبًا وأوراقًا، بابتسامة عذبة يعتذر عن تأخره: ”كان لدي امتحان“. يجلس ولا تفارقه الابتسامة ويتابع: ”اليوم آخر امتحان، سأتخرّج قريبا“.
عمل فهد صحفيًا متطوّعًا في منظمة إغاثية لأكثر من عامين ونصف. توقف نشاطها فعاد لاستكمال دراسته الجامعية. كان يغطي أخبار الانفجارات ونقل القتلى والمصابين، كما عاش تجارب الاقتراب من الموت: ”وقعت عملية انتحارية على بعد أمتار قليلة مني، جثث مقطعة الأوصال تغطي المكان، رأيت جثة منفذ العملية، نصفها مقطوع وملقى على جانب الطريق، بحثت عن صديقي الذي كان يرافقني، وجدته أشلاء متناثرة“. يحدّق في الفراغ وبصوت هامس وكأنه يحدّث نفسه: ”لا أصدق أنه مات بتلك الطريقة المروعة“.
وبفعل الحرب المتواصلة للعام السادس في اليمن، وبحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة ”أوتشا“، فإن ما يزيد عن 24 مليون شخص من إجمالي عدد السكان البالغ 30 مليون في حاجة إلى المساعدة الإغاثية، ومن أجل هذا تنشط أكثر من 128 منظمة إغاثية محلية ودولية، يعمل فيها متطوعون يشهدون ضغوطًا متزايدة يفاقمها التجاهل. والصحة النفسية للعاملين في مجال الإغاثة الإنسانية في اليمن مشكلة جرى تجاهلها تحت ذرائع عديدة. منها أن هناك أولويات في بلد يكابد أهله المجاعة والتهجير. غير أن الأصوات تعالت في السنوات الأخيرة، تنذر بكارثة حتمية الوقوع إن استمر تجاهل الأمر.
يروي فهد أن ما عاشه لا يراه في نومه وحسب، بل في صحوه أيضًا: ”أسمع أصوات استغاثات، أشم رائحة حريق، حين أقرأ تمثل أمام عيني صور الجثث والدماء والأجساد المحروقة، فأغلق الكتاب“.
لسوء الحظ لم يكن محمد بتلك الصلابة التي ظهر بها فهد. بدا مهدود القوى. عيناه الحمراوان وشيت بليال مسهدة. استأذنني في إشعال سيجارة، لم ينتظر موافقتي، أشعلها سريعًا وشرع يدخن. يروي محمد كيف تطوّع في إحدى المنظمات الإغاثية المحلية، لكنه لم يستمر أكثر من أشهر: ”حدث انفجار، سمعت طفلة تستغيث، برز رأسها من نافذة منزل غير بعيد، قبل أن أصل إليها وقع انفجار آخر، حصل كل شيء بسرعة، اختفى المنزل، سكت صوت الطفلة من الوجود لكنه استقر داخل رأسي“. ترك محمد العمل بعد تلك الحادثة. احساس الذنب يؤرقه. يسترجع الحدث كل يوم، يجهد ذهنه في تذكر التفاصيل، تتردد في رأسه المنهك كلمة لو: ”لو أنني وصلت مبكرا…. لربما كان بالإمكان إنقاذ حياتها… ربما“.
تحديات إضافية
يصف جابر رسّام ”منسق وحدة الكوارث والطوارئ في جمعية الهلال الأحمر اليمني“، السنوات الأخيرة بأنها أصعب سنوات عمله الذي بدأه قبل تسعة عشر عامًا. ”شاهدنا فيها فظائع لم نكن نتخيّلها“. سألته عن أكثر الأمور التي تشكل ضغطًا نفسيًا عليه أجاب: ”عدم فهم الناس لدور الهلال الأحمر، وعدم استيعابهم أننا جهة مستقلة لا تتبع أي طرف سياسي، ولا دخل لها في الصراع الدائر، وأن عملنا إنساني بحت“. وبسبب تدني الوعي يتعرض أفراد من الفرق الإغاثية للاعتداء اللفظي، وأحيانًا الجسدي. يشكّل هذا ضغطًا نفسيًا يضاف إلى ما يعانوه في الميدان من مشاهد الموت والدمار. يتابع: ”هناك معضلة أخرى يخلقها سوء التنسيق بين الجهات المختصة، نعاني كي نصل إلى مكان الحادث، لنجد من يمنعنا الاقتراب، ثم يكون مصيرنا الطرد والتهديد بإطلاق الرصاص“.
جانب آخر يشكل تحديًا نفسيًا للعاملين في المجال الإنساني، وهو أن ترى كيف تشوّهت الغرائز الإنسانية الطبيعية مثل غريزة الأمومة. تروي ليال عدنان رئيس ”مؤسسة البسمة التنموية الخيرية“، كيف تكفّلت بإحدى المريضات: ”أُدخلت المريضة إلى وحدة العناية المركزة وبدأت بالتحسّن تدريجيًا، لكن الأم أصرت أن تخرجها، بدت لا مبالية بتحذير الطبيب بأن خروجها يعني وفاتها، ماتت المريضة بعد أيام من عودتها إلى المنزل. أصبتُ بحالة اكتئاب حاد بعد تلك الحادثة“.
خطوات إيجابية
تأسس ”برنامج الدعم النفسي والاجتماعي“ في جمعية الهلال الأحمر اليمني في العام 2012 نتيجة للأزمة الإنسانية التي أعقبت أحداث العام 2011، وبحسب عبدالله لقمان الضابط الأول في البرنامج، فقد اقتصر في بداية تأسيسه على مساعدة بعض الفئات المتضررة في المجتمع، ومنذ العام 2017 خُصص جزء من البرنامج لتقديم الدعم للعاملين في مجال الإغاثة الإنسانية. وبسؤاله عن أكثر المصادر المسببة للضغوط النفسية يذكر لقمان أن أغلب المتطوعين يجمعهم الشعور الدائم بالخوف، نتيجة عملهم في بيئة غير آمنة. كما أن عدم توفر ضمان صحي للمتطوع يفضي إلى القلق من المصير الذي سيؤول إليه في حال أصيب في الميدان. وقد يضطر إلى الانتقال إلى محافظات أخرى لتقديم المساعدة، فيعيش لأيام وسط الجثث. أحد المتطوعين أخبره أنه ظل يشم رائحة الجثث في جسده وملابسه لفترة طويلة.
وتتفق مع ذلك ميرفت عفيف، مدير الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي في منظمة (PU-AMI) في صنعاء، بقولها أن الأحداث المروعة التي يعيشها المتطوع في ميدان العمل الإغاثي، تظل المصدر الرئيسي للضغوط النفسية. إضافة إلى الضغوط العامة مثل المهام المتعددة المطلوب منه إنجازها في وقت قصير أو المشكلات مع الزملاء ومع الإدارة، فيظهر كل هذا في صورة شعور بالإعياء واضطرابات النوم والحزن والعصبية. تتابع عفيف: ”يقع على المنظمات العاملة في المجال الإنساني مسؤولية توفير مختصين قادرين على رصد أي تغييرات تطرأ على العاملين لديها“.
وفي هذا الإطار يؤكد لقمان أن جزءًا من التدريب الذي يتلقونه بصفتهم مسؤولين في برنامج الدعم هو تمييز الشخص الذي يعاني من صدمة: ”نلحظ علامات مثل صعوبة في التركيز، أو أن يشكو الشخص من اضطرابات في نومه، بعضهم تحصل معه حالة من التبلّد والجمود. دورنا ينحصر في تقديم الإسعافات الأولية النفسية. في حال كانت الحالة تحتاج إلى تدخل أعمق نحيلها إلى طبيب نفسي“.
وعن كيفية زيادة فعالية البرنامج تركز ريم السقاف مسؤولة برامج الدعم النفسي والحماية في جمعية الهلال الأحمر اليمني، على أهمية الوعي المجتمعي. تبدأ التوعية بأهمية الصحة النفسية بالتركيز على الآثار السلبية والتبعات الوخيمة التي تنجم عن إهمال هذا الجانب: ”نأمل في ثورة مجتمعية فكرية فيما يخص الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي“.
سبيل الخلاص
”على من يعمل في المجال الإنساني أن يقي نفسه عبء تراكم الأزمات النفسية كي يتلافى الوصول حد الانفجار“. هذا ما تذكره ميرفت عفيف مشددة على أهمية أن يتبع العامل في المجال الإغاثي آليات التأقلم الإيجابية للتغلب على الضغوط، وممارسة تمارين الاسترخاء العضلي والتنفسي، والمحافظة على نمط جيد للنوم والأكل الصحي وتجنب العزلة. الأمر الذي يوفره برنامج الدعم النفسي في جمعية الهلال الأحمر بحسب عبدالله لقمان الذي يقول: ”ندرب المتطوعين على كيفية التعامل الذاتي مع الضغوطات والتخفف منها بصورة دورية، نحثهم على وضع خطة يومية للعناية بالذات، اقتطاع وقت للاسترخاء، وتجنب الكبت“.
لكن فهد لا يرى أن حالته تستدعي تدخلًا علاجيًا. لا يمانع من التحدث مع مختص نفسي لكنه لم يفكر جديًا في التواصل مع أحد منهم. يرد على سؤال عن كيفية تعامله مع الضغوط: ”أنسى همومي رفقة أصدقائي، أتابع وسائل التواصل الاجتماعي“. بعكس ليال التي تفضّل الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي: ”أنقطع عن العالم لأيام، يفيدني كثيرًا الذهاب إلى البحر“.
في حين لا يُخفي جابر أنه يضطر في مرات قليلة إلى تعاطي أدوية مهدئة مضادة للقلق: ”بفضلها أهرب للنوم، أستمع إلى الراديو، يريحني البكاء كثيرًا، وكذلك سماع القرآن، أحاول الابتعاد عن متابعة الأخبار قدر استطاعتي“.
أما محمد فيضع يدًا معروقة على جبينه، ما زال يدخن بشراهة، يلعق شفتيه المتشققتين: ” سأعود إلى قريتي، سأعمل بالزراعة، هناك قد أنعم بالسكينة“
…………………………………………………….
- صحافية وكاتبة يمنية