- حكيم العاقل
عندما يكون البحث والتجريب ملازما للفنان فمن المؤكد أن الاستمرارية في خوض التجارب التي تفضي إلى تشكل رؤية مستقبلية يكون فيها التجريب التقني وإدخال الفلسفة الذاتية التي تنعكس بشكل مباشر خاصة عندما تتشكل الأفكار النظرية القابلة للتنفيذ بمقاربات بحثية يعتمل فيها الوصول إلى حدود الحلم المعرفي في تقديم صيغة جمالية مقنعة ومفتوحة بنفس الوقت للبحث والتجريب وتقديم صيغ جديدة مفتوحة للتطوير والتجديد وطرح مفاهيم جديدة اعتماداعلى الخبرة .
(1)
اتابع أعمال الفنان راشد آل خليفة قبل ما اتعرف علية بسنوات، وكنت معجبا بطريقة الصياغة اللّونية في تناوله للمواضيع البسيطة التي يحولها إلى مهرجان لوني يحمل دلالات معرفية ستتضح في تجاربه اللاحقة، والتي تأتي متسقة مع التراكم المعرفي والتجريب الذي قاده للوصول إلى أقصى المغامرات التجريبية (المعقلنة) (مستجراً ) كل تجاربه، وموظفا كما هائلا من المعرفة المتسقة أو المتدرجة من مرحلة إلى أخرى.
(2)
في العام 2008 زرت مرسم الفنان راشد آل خليفة وشاهدت اللوحات الأصلية للفنان من مراحل مختلفة واستوقفني هذا التنوع الكبير والبحث في اتجاهات مختلفة من الواقعية الانطباعية إلى التجريد إلى جانب وجود تجارب لم تتضح بعد، بدأ مشواره الفني وعمره 16 سنة ونظم أول معرض له في العام 1970م في فندق دلمون وبعدها سافر إلى بريطانيا للدراسة ، وعاد بعدها محملا بخبرة مكنته من مواصله مشواره الفني.
في اللوحات المبكرة للمناظر الطبيعية التي تبدأ من أواخر السبعينات والثمانينيات حتى التسعينات القرن الماضي ضمن سلسلة تتسيدها البيئة البحرينية وتتسم بروح اللحظة ولا تظهر تفاصيل كثيرة ، ولكنها تركز على المعالجة اللونية بصورة اختزالية ترتكز على عناصر الأبعاد الثلاثة (الأرضية/خط الأفق/السماء) ، وبهذه الأبعاد الأساسية صيغت معظم لوحات المناظر الطبيعية ،وكان ما يشبه التفاصيل يأتي على شكل مساحات لونية. في التسعينيات أصبح للمنظر الطبيعي عند الفنان له مزاج مختلف وأصبح اللون أكثر شفافية مصحوبا بحالات نفسية فيها قدر هائل من السكينة (المختزلة) لونيا، والرسم باللون هو أصعب بكثير من الرسم ومن بعدها التلوين ، ويبدو أن الفنان قد امتلك كما هائلا من التشبع بالبيئة ، وأصبحت تسكن وجدانه فاحتفظ بطاقته في التلوين أو الرسم باللون مباشرة .
يتطور المنظر الطبيعي لدى الانسان مع المشاهدة المستمرة فكل مرة يراه بشكل مختلف حسب حالة الجو ، والانعكاس النفسي لكل حاله ، وهنا يكون على الفنان ابتكار تكوينات ابتكارية ( جديدة ومغايرة ) في زاوية الالتقاط ،وكيفية معالجة المساحات اللونية وهذا ما برع فيه الانطباعيون، فلم يعد المنظر الطبيعي محاكاة للواقع بل هو فرض واقعا متخيلا في عالم الفنان الذي يفرض واقعا يعيش داخله وليس الواقع الذي يشاهده الناس، ومن هذا المنطلق وضعنا الفنان راشد آل خليفة في عالمه ومفهومه للطبيعة التي أجاد صياغتها إلى جانب إنجازه مجموعة من الوجوه بتكوينات مختلفة خاصة النساء المستلقيات ، والتي بالتأكيد سوف تنعكس على أعماله المستقبلية وتجاربه التي لا تنتهي ، وفي نفس الوقت نجده يمارس التصميم باحترافية عالية وكذلك التصوير الفوتوغرافي، هذا التنوع ساعده كثيرا على ابتكار شكل جديد للوحة فلوحاته فيها (تكوين/تصميم) عال مهتما بكل تفاصيل الإخراج الفني للوحة .
(3)
لايتحدث الفنان راشد عن لوحاته ولكنه بحب كبير يدعوك إلى مشاهدة أعماله ويترك لك حرية التفسير والتأويل فهو يقدم لك تجارب كثيرة وغنية ، ويبدو أن هذه المراحل لا يوجد فيها حد فاصل بل تتداخل مع بعضها ، وهذا التداخل يعطي التجربة استمرارية وتأكيدا للخبرة والتمكن في الطرح والوصول إلى معالجات احترافية تغطي كل مراحل انتاج الفنان الباحث بهدوء معتمدا على فلسفة الصمت الذي يصنع ( يصنع أو تصنع) الإنجاز دون ضجيج.
تتجدد الزيارات إلى مرسم الفنان راشد وفي كل مرة أرى تجربة جديدة كان لها مقدمات في الزيارة السابقة، شاهدت مجموعة من (الشاسيهات) إطارات شد القماش بمقاسات مختلفة غرائبية الشكل والاستدارة، استطيع القول أنها (محدبة) ولاحظت أن شد القماش عليها صعب جدا ، وكنت أتساءل كيف سيكون الرسم عليها وتلوينها ونقلها وتعليقها؟
تناول الفنان راشد ال خليفة الطبيعة الصامتة بتكوينات ابتكارية يلعب فيها اللون واشتقاقاته أساس التحوير من (المرئي) إلى غنائية ممتلئة بالاحاسيس والبوح اللّوني وبهرمونية تتسق مع أشكال الزهور والورود التي تتحول إلى ضربات ومساحات لونية تنتقل تدريجيا إلى أجسام(فيجر) مموه ويختلط الزخرف مع المساحة اللونية التي يعاد تشكيلها بصيغة مختلفة، ويستمر إلى نهاية التسعينات. تبدا بعدها تباشير مرحلة جديدة واستطيع القول أنها تطور واختزال مراحل سابقة وأصبح هناك نوع من الاستقرار التكويني حيث أصبح المركز هو الوسط وأصبحت الكتل تتكور في الوسط والأطراف خلفية مساعدة لإظهار العمل.
(4)
ابتداء من العام 2000 اختار راشد آل خليفة أن يكون للوحة شكلا آخر غير المتعارف عليه مستفيدا من كل التجارب السابقة ، في كل سنة كان يقدم شيئا جديدا ليس في شكل اللوحة إنما في المحتوى الفني ، وأقصد هنا كيفية السيطرة على الشكل الجديد وتضمينه محتويات تتلائم والمشروع الذي يعمل عليه، فجرب التكوينات (المستديرة) مع الزوايا الطولية – مكعبات يتم الرسم عليها من جميع الجهات تبدو مثل تنصيبات نحتية ملونة تتضمن (فيجرات) أجسام بدون ملامح بل اشتقاقات من كتل أجسام تتحرك بتكوينات متحركة بشكل دائري يمكن مشاهدتها من جميع الجهات موضوعها أجسام طولية لاجساد بشريه مجردة تحاكي ما يشبه الرقص. في هذه التجارب كان الفنان يمسك بخيوط المشروع (الرؤية) التي يعمل عليها ، وبدأت اللوحة (المحدبة) تتخذ أشكالا مختلفة وصولا الى استبدال القماش بسطح (لامع) يعكس المحيط وهذا خروج عن المالوف إلى (المبتكر) في استعمال وسائط مختلفة مع توظيف الخبرة في هذا النمط الجديد الذي اختطه ، بل استمر في تطويره بشكل مختلف .
في الأسطح المصقولة تحتشد عولم تتغير مع حركة المشاهد للوحة التي تعكس كل ما يحيط بها خاصة وأن الاستدارة (المحدبة) قد ساهمت في إعطاء العمل الفني مدلولات فلسفية وتقديم رؤية كونية للمرسوم أو (الملون) ففي معظم اللوحات نجد تشكيلات لونية مجردة ، والبقية (الفارغة/اللامعة) تترك حيزا لانعكاس الأشياء التي تتحرك طالما هناك جسم يشاهد العمل الفني ، فهذه الديمومة الحركية أعطت معنى آخر وصولا إلى التجريد الموظف ضمن علاقة (المتحرك /الثابت) اللوحة ثابتة وفي داخلها انعكاس متحرك ، بهذه العلاقة استطاع الفنان راشد أن يمسك بفكرة الحركة أو المتحرك في العمل الفني وهذا ما كان يشغله فهو يريد للوحة أن تشاهد بشكل آخر، اللوحة ليست تلك المعلقة على الجدار فقط ، أنه يرمي إلى خلق علاقة بين المتلقي الذي تنعكس صورته على السطح اللامع وسيصبح جزءا من اللوحة .
(5)
في 2014 زرت مرسم الفنان والصالة (الجاليري) المجاورة للمرسم، كانت ممتلئة باللوحات لم أشاهدها من قبل وبجانب الصالة أنشأ معملا خاصا مكتضا بالمعدات والمواد المختلفة، لم ندخله اليه بل شاهدناه من خلال النوافذ، وحدثنا عن أنه بدأ مرحلة جديدة واستعمال خامات مختلفة للتجربة القادمة التي سنرى نتائجها في المعارض القادمة .
في معرضه الشخصي في (SAATCHI GALLERY ) 2018 في لندن استلهم نموذج المشربية الشرقية كهدف (ضوئي) وشكلا ديكورياً استوحn منها مرجعياته التي استند عليها ليقدم تجربة رائدة ومتطورة فكريا وفلسفياً وتقنياً بل تجاوز التقنية المتعارف عليها في تقديم نموذج فريد من نوعه معتمدا على قدرته التصميمية وكيفية التنفيذ التي استخدم فيها كل شىء الحديد(الفولاذ) الألمنيوم، الدهان الأصباغ والأصماغ بكل أنواعها، إن حبه للتصميم بكل أنواعه أوصله إلى المعمار فهو يستعمل الرموز المعمارية (الدائرة/المربع) ويوظفها بكل طاقتها التعبيرية ضمن رؤيته التي يعمل عليها مثل الدائرة. ( التي سيكون من المستحيل شرح كل معاني رمز الدائرة لأن الدائرة هي واحدة من أهم الأشكال في علم الرموز وتمثل طبيعة الطاقة اللانهائية ورمز الكون ترمز الدائرة إلى الأبدية لأنها لا تحتوي على بداية أو نهاية فعند الصينين تعبر الدائرة عن شكل السماء ،وعندما نرى مربعًا داخل دائرة في الفن الصيني ، فإنه يمثل الاتحاد بين السماء والأرض ،وينعكس هذا التجاور في الرموز التي نعبر عنها الدائرة كنموذج هندسي وعند الجمع مع المربع تتكون العلاقة أو التوازن بين النفس والجسم). أظن أنها بحاجة إلى إعادة نظر في الصياغة كاختصارها مثلا لأني أشعر بأنها محشورة حشرا
بدأ الفنان راشد آل خليفة بحثة في الأشكال الهندسية لتوظيفها في عمله الفني من خلال الدائرة والمربع بكل تفاصيله معتمدا على العاطفة بالدرجة الأولى، أما الأشكال الهندسية فتعود للمستوى العقلي والروحي الأعلى منه، وهذا ما يجعل للبلورات الكريستاليه التي وظفها في العمل الفني أهمية خاصة، فهي تعبير عن الهندسة الصافية، وجعل الفنان من (المشربية) الشرقية نموذجا لبحثه مختزلا كل مكوناتها من أشكال هندسية وصولا إلى البلورات الزجاجية. درس هيكليّة المشربيّة وإنشاءها وعلاقتها مع البيئة. من هذا الموروث البحريني استجر الفنان معظم عناصره الفنية مستخدما كل تقنيات العصر المتاحة لإنتاج لوحة تتكئ على مفردات بيئية مختزلة، وأصبحت المشربية مرجعية إنطلق منها ليحاكي العالم بلغة حديثة شكلا ومضمونا مع إظهار وسيطرة على الضوء كاخراج شامل .
واذا عدنا الى التوصيف الدقيق للمشربيّة هو أنّها نافذة(فراغ أو فتحة) في الجدار مغطاة بإطار مكون من تراكب مجموعة من القطع الخشبية الصغيرة اسطوانية الشكل (دائرية المقطع) على شكل سلاسل تفصل بينها مسافات محددة ومنتظمة بشكل هندسي. ( لا أرى ضرورة لذلك )
(6)
كان (فيثاغورث) يضع التلاميذ في غرفة لفترات طويلة مع بعض الماء والخبز ويعطيهم شكلاً هندسيًا كالمربع أو الدائرة ويطلب منهم كشف معانيه، والذين يكتشفون المعنى يصبحون فعلاً تلاميذه الفعليين. ،و هذا ما يحدث تمامًا بالأشكال الهندسية، فهي تعبير عن مبادئ أكبر في المستويات الأعلى، فنمددها إلى اللانهاية أو نكثِّف اللانهاية في هذه الأشكال المحدودة المربع والمستطيل و الرقم 4 هو رمز الحياة المادية بعناصرها الأربعة من ماء ونار وهواء وتراب، فصولها الأربعة، اتجاهاتها الأربعة .
(7)
استخدم الفنان راشد تربيع الدائرة بما أن المربَّع يمثل الحياة المادية، والدائرة عالم اللانهاية وعالم الروح؛ فقد كان هوس كثير من علماء الرياضيات عبر التاريخ، تربيع الدائرة، أي إيجاد مربَّع يطابق تمامًا مساحة الدائرة، وهو في النهاية محاولة فهم كيف نصل عالم الروح بعالم المادَّة وهذا ما بحث عنه ليوناردو دافنشي في الرجل (الفيتروفي) التي تمثل التلاحم بين الفن والعلوم.
قدم راشد آل خليفة عبر حسابات رياضية وهندسية ديكورية ومعمارية حسابات دقيقية لأعماله المنجزة التي يعتمل فيها الحساب الدقيق لكل المسافات والأشكال البارزة والغائرة على سطح العمل الفني الذي اتسم بالدقة الفائقة في الإخراج النهائي، فالمشربية المتحورة إلى تنصيبات فراغية (انستليشن) في الفراغ المتحكم فيه مساحة وإضاءه يساندها الأعمال التركيبية المحدبة والمعلقة على الجدران والتي تبدو كـ(ستائر الضوء)- وظيفة المشربية- ،وتوزعت بشكل مختلف خاصة مع الإضاءه المتوهجة من الخلف والجوانب مستفيدا من الفتحات والثقوب في جسم العمل الفني من خلال الإخراج الذكي للفكرة. أصبحت المشربية بكل دلالاتها المختلفة عملا فنيا، وأصبح المتلقي ينظر لها من الخارج كجمالية مطلقة بحد ذاتها ،وألغيت وظيفتها التقليدية التي حولها الفنان الى موضوع للتأمل لجمالية مضافة تحمل أبعادا عميقة تتسق مع الرؤية الحديثة لتقديم العمل الفني.
(8)
اطلق الفنان في معرضه في SAATCHI GALLERY في لندن حزمه هائلة من النور بأشكال مختلفة (فيزيائي/كيميائي) من خلال توزيع الإنارة داخل وخارج العمل الفني والتحكم بهما ، وطريقة تلوين العمل الفني موظفا الشكل (الريليف) البارز والغائر على شكل فتحات ونتوءات بارزة في نفس الجسم ، ومع تسليط الضوء على العمل الفني الذي يتحول إلى(ضوء /ظل) مبرزا الشكل المراد تقديمه في العمل الفني.
تنوعت الأشكال في القاعة، في الوسط كان ينتصب العمل الرئيسي كتلة هائلة من البلور الملون الشفاف، من جميع الاتجاهات تحاكي ستاره الضوء (المشربية) الهدف الرئيس للفنان الذي قام بتصميم الشكل بكل تفاصيله ، ويتكون العمل من فسيفساء تتخذ أشكالا هندسية صغيرة تتماوج لتعطي هيئة البناء الهندسي المعماري .
اختط الفنان راشد في هذا المعرض أسلوبا مفاجئا وجديدا كفكرة، كالتنصيبات في الفراغ (الانستليشن) ووظفها لتقديم فكرة امتزج فيها كل شيء مع تحديد الهدف أو الرابط الذي يجمع كل هذه الاشكال ضمن بوتقة إبداعية لها مرجعية تتمحور حولها العملية الإبداعية. واعتقد أن الانعكاس الجمالي لما يقدمه الفنان راشد بإعادة تعريف للفن من خلال معطيات جمالية قريبة للمتلقي الشرقي وتعريف حديث للمشاهد الغربي فقد قام بإعادة صياغة للمفردة البيئية موكدا دور الفن في خلق جماليات تساهم في إعادة صياغة الفن بجمالية قريبة من الإنسان مع توظيف لأقصى طاقهة للإبداع.
ومثل هذه الأعمال بكل تشكيلتها ممكن أن تنتقل إلى الشوارع والساحات لتخرج من الصالات المغلقة لتستقر في مكان دائم يشاهدها الناس ليتحقق الهدف الأساسي للفن من خلال ربط الإنسان بالمكان وخلق مساحات جمالية ، وحداثه نوعية تجتر المعمار التراثي وتوظفه في قالب فني يطرح الأبجديات الأولى للإنسان ودمجه في محيطه البيئي .
عند النظر في مراحل وتجارب الفنان راشد آلـ خليفة نجد استمرارية من البداية إلى الآن، من المنظر الطبيعي إلى آخر التجارب نجد اتساقا معرفيا وخبرة تراكمية متطورة، ،وهذا ينم عن قدرات الفنان في السيطرة والتماسك الاحترافي الذي مكنه من تقديم تجربة رائدة ذات امتداد كوني يحاكي العالم بلغة يتحكم فيها الفكر والرؤية التي تختزل كل معطيات العصر، من خلال إدخال التكنولوجيا ودمجها في العملية الفنية بكل تعقيداتها .
- فنان تشكيلي وناقد
2020