- حكيم العاقل*
مغامرة التجريب التقني واالموضوعي تدفع الفنان لاكتشاف عوالم مختلفة تتغير ضمن معطيات التحول المعرفي في كل مرحلة بالتراكم المعرفي لثلاثة عقود من الزمن أستطاع محمد الجالوس أن يقدم تجارب متلاحقة بتقنيات وأساليب متنوعة تمتد ضمن سلسلة من المواضيع التي تتسم بخليط من التجريد والتشخيص والواقعيات (الأعمال المائية) وهذا المزج المرحلي بين الأساليب والمواضيع المتخيلة دوما يحيلنا إلى فنان متمكن من أدواته ممتلكا للخبرة التي تتطور في كل مرحلة عمل عليها وفي التعامل مع المواضيع المعقدة عبر الانتقالات المدروسة في كل مرحلة اعتمد الفنان محمد الجالوس على نفسه فنجده ممارسا للكتابة القصصية والنقدية في البدايات مما اكسبه ثقافة شاملة أستطاع أن ينفذ من خلالها الى عالم الثقافة المتنوع ، شاهدت في مرسمه مئات الكتب الفنية والأدبية المتنوعة قديمها وجديدها وهذا يدل على المتابعة مما يجعله في وسط المشهد الثقافي ، إلى جانب عيشه في الولايات المتحدة الامريكية وزيارته للمتاحف والجالريهات واحتكاكه بالفنانيين من مشارب مختلفة شكل لديه خبرة عملية ومعرفية أنعكست في تجربتة المتفردة في سياقاتها المختلفة.
يعود الجالوس من عمله الاداري إلى مرسمه با شتياق ليمارس عمله الحقيقي في مرسمه يسود الهدوء إلا من صوت الموسيقى في هذه الساعات التي يسرقها لينجز أعماله ينهمك ويتوحد مع اللوحة التي ليس لها نهاية ،يخلص لعملها ويتحاور معها إلى أن يذيلها بتوقيعه ، لتبدأ مرحلة أخرى على سطح قماش أخر.
• التجريد والتشخيص (المموه )
وما نحن بصدده اليوم هو تجربة الفنان محمد الجالوس الاخيرة التي استجرت تجاربه السابقة ، وفي هذة التجربة نجد مزاج مختلف واستقرارية -تطويعية – للعجينة اللونية وتأثيراها على السطوح يعتمل فيها (التجريد/ التشخيص) وهذه القدرة في تقديم اللوحة بهذا التماهي والتداخل اللوني والشكلي والتمكن العام في السيطرة على ابعاد اللوحة من خلال الكتل اللونية والفراغات المدروسه في كل اجزاء اللوحة تتوزع هذة التجربة با حجامها المتوسطة والكبيرة على موضوع محوري يعتمل فيه (نعو مة الخشونة/ وتماهي اللون الابيض) ياتي التشخيص مجردا با (انزياحات) تجريدية فا الهدف هو العجينة اللونية التي يعتمل فيها الملمس (البارز/الغائر) وما لانهاية من التوشيحات اللونية من الاحمر المشع والبرتقالي في ارضية بنية محروقة تتجاور مع الابيض الناصع ممتلئة با النتوءات وتقسيمات تتخذ اشكال مربعات صغيرة تشكل الاساس التصميمي (التكوين) للعمل الفني ويتم دمجهم وعزلهم في اماكن محددة ومدروسة واحيانا تتلاشى المربعات ويستعاض عنها باللون او الملمس.
• الهدم والبناء
الفنان لايرسم مايراه وانما يرسم ما يفهمه عندما كنت في مرسم الجالوس كان يدور بيننا حوارت مختلفة وفجاة ينهض الى اللوحة ويصيح وجدت الحل ويكون الحل هو بهدم اجزاء في اللوحة وبناء شكل جديد وعلى مدى ايام تتغير هذة اللوحات عبر سلسلة من الاضافات والحذف والهدم واعتقد ان لدى الجالوس طاقة كبيرة لاتكتمل فيها اللوحة فهي تخضع لسلسلة من التقنيات ابتدا ءمن تاسيس القماش وما يليه من التحضيرات للسطح وصولا الى التكوين .
لقد اختار الجالوس ان يكون التجريد هو طريقة الى التعبير ، ومن خلال تجربته ادخل الشكل والوجوه وكل شىء في عمله معتمدا على مرجعيات مختزلة في الذاكرة ، فعندما يرسم تتحول البقع اللونية الى ذكريات وتبدا عملية تسلسلية من الحذف والاضافة كمن يتذكر حكاية وينسى اجزاء منها ويعيد صياغتها من جديد .
لقد تعامل الجالوس با خلاص مع فنه متنقلا من تجربة الى اخرى ويحذوة فرحة الانتصار بتحقيق تصوراته ورؤاه وما نجده في تجربته الاخيرة محصلة مدروسه لتحولات اكثر عمق وادهاش ، واستقرار مريح ، اصبحت اللوحة كتلة ينتزع منها الاشكال ويضيف اليها الالوان بحرفية واضحة ، في هذة المرحلة تخلص الجالوس من اشياء كثيرة ، فا الاشكال العفوية للبشر التي يكتشفها المشاهد بصعوبة تحضر احيانا بوضوح وبحجم كامل ، وتظل التفاصيل بشكل عام مجردة وتحمل احالات مكانية تترأى في مخيلة الفنان.
نجد في اعمال الجالوس الاخيرة استجرار لمرحلة سابقة كانت حاضرة من خلال (الكولاج) واعتقد ان الامر قد حسم في هذة المرحلة ، فقد تخلى عن لصق الاشياء الى ايجاد صيغة اخرى في التعبير ونضوج معرفي في التعامل مع اللوحة واخرجها با اشتقاقاتها التقنية المركبة يمتزج فيها (الخبرة/التقنية/الذكريات) بهذة الثلاثية يقدم الجالوس مشروعة الهام في هذة السلسلة من اللوحات التي تشكل اضافة للفن الاردني و الفن العربي ، فا اللوحة التجريدية التقليدية تنحسر وذلك للتشابه الممل للوحات التجريدين الذين ظلوا محبوسين في (المانورزم) التكرارية ، واعاده انتاج ماهو موجود ، بينما الفنان محمد الجالوس نفذ من التكرارية الى الابتكار واضافة روح جديدة مستفيدا من تجربتة ومعارفة وضافة تقنيات ومواضيع جديدة قدمها بقالب احترافي من خلال (المتخيل والذكرى) فنجد التحوير الذي حصل للمربع في مراحلة السابقة التي كانت تسكنه الوجوة ، وهذة مرحلة هامة ايضا تقنيا وموضوعا ، اصبح المربع لايقسم اللوحة بل يعيد تماسكها واتساقها ونجده يختفي تمام في بعض اللوحات اما اللون الابيض فله الهيمنة في التكوين ولكنه ياتي في مكانه دائما .
استطاع الجالوس في تجربته الاخيرة ان يفلت من تقليدية اللوحة التجريدية وقدم انموذج اخر يتمتع بطاقة تعبيرية لونية وشكلية وتفريغ محكم للكتل تجاوزت المألوف لتضعنا في سياقات تحمل استباقية في ايجاد حلول لأ زمة المتشابه في الفن ، يستعرض الفنان محمد الجالوس تجربته في اكثر من ثلاثين عملا فني بتفرد خاص وبمرجعية استباقية لما سيؤول اليه في هذة المرحلة التي يتخللها الابتكار المعرفي وشغف التلوين بتماهي الابيض بين خشونة ونعومة السطوح .
• سيطرة الكتل اللونية وتماهي المربع
عندما اتحدث عن المربع في تجربة الجالوس فانا اتحدث عن امتداد تجربة كان المربع فيها اساسي ويحتل الصدارة ، فا الوجوه والاشكال المحصورة داخل المربعات – الى جانب اختيارة لمقاسات اللوحات – تتسق مضمونا وتقنياً في تجاربة كلها.
اصبح المربع في تجربة الجالوس الاخيرة لونا مكملا للعمل بل متاماهيا بجانب السيطرة القصوى للكتل اللونية ، ففي هذة العملية (الاستبدالية) نجح الفنان في التحكم التام بتقسيم اللوحة تكوينيا وتقنيا مع احتفاظه بما يسمى الاستدلال البصري وذلك من خلال الوشائج المرتبطة با الوجدان الذي يجعل التجربة تمتد دون انتقطاع عن الماضي القريب الذي شكل تجربة الفنان ، فهذة التجاوزات المرحلية اتت مكملة لهذة التجربة الهامة التي تخللها البحث والاتساق المعرفي لما ستؤول اليه هذة التجربة.
في هذة التجربة نجد اختزال لونيا (كتل خشنة / شفافية عالية / نقاط مضيئة) ياتي اللون الاحمر من خلال بقع موزونة وفي مساحات وفي مكان محدد ليصبح محور اللوحة ،بهذة المكونات اصبح المربع ارضية متماهيىه في العمل الفني ولا يشكل اى تحديد او انحصار للكتل كما في التجارب السابقة.
• انعكاس المحيط لتشكيل الاثر
يقول كندنسكي (الرسم ضرورة باطنية تنمو على مهل ثم يقوم العقل بعملية الولادة دون أن يظهر أثر ذلك العقل المخطط في العمل الفني ) لساعات طويلة يمارس الجالوس في مرسمة متعة الرسم والاستحوا ذ على اشكالة التي تتغير وتتبدل بينما تصدح الموسيقي المستمرة التي تعطي الفنان طاقة ايجابية اضافية .
في احدى مرات زيارتي لمرسم الفنان كانت سمفونية الفصول الاربعة لفيفالدي تتناغم مع اعمال الفنان واجد الفنان يلون ويحذف ويضيف بهرمونية ايقاعية وهنا تذكرت كندنسكي الذي طرح نظرياته التجريدية حول التجريد وعلاقتة با الموسيقى ، وتاكيد كاندنسكي على ان الموسيقى فعل تجريدي يستدر الحواس ويفتح افاق الروح ، وبين استماعي الى الموسيقى وملاحظتي للفنان الجالوس وهو يتمتم وجدتها واذا به يضع اللوحة ارضا ويحذف اجزاء كبيرة ويرتاح قليلا وعلامات القلق والتحفز للا نقضاض على اللوحة مرة ثانية واستخراج اشكال جديدة ، المهم ان الفنان يندمج مع العمل الفني بهذة الصورة هو نتيجة طاقة ايجابية تولدت من الاندماج الكلي با المحيط العام المؤثر على العملية الابداعية وخروج العمل كا (اثر ) لهذة التمازجات الانفعالية وتسخير الطاقة المتولدة لاكمال العمل الفني الذي يشكل الحالة الانفعالية لتجسد فكرة ما .
طالما ان الفنان قد اختار التجريد وسيلة للتعبير فعلية ان يتوحد معه من خلال البحث عن الوسائط التي ينتج به عملة معتمدا على التقنيات والخبرة المتراكمة ، ومغامرة التجريب التي تشكل الطفرات النوعية للفنان .
• تكوينات
في تجربة الفنان محمد الجالوس الاخيرة بحث مستفيض شكلا ومضمونا حيث نجد ان التكوينات تختلف من لوحة الى اخرى الى جانب احجام اللوحات ومقاساتها المدروسه مسبقا واختيار القماش ذو الملمس الخشن ، كل هذة المفردات المحضرة سابقا توكد على ان الفنان قد اختار لتجربتة ادواته ولم يبقى غير التنفيذ ، عند التامل في تكوينات الجالوس نحس بقدرة الفنان على التصميم الشكلي والتقني لكل لوحة فا توزيع الكتل وترك المساحات التي تتنفس من خلالها الكتل اللونية مع توزيع لبعض المساحات تتسم با الشفافية العالية برغم خشونة السطح.
يعتبر التكوين هو العملية الفاصلة في اللوحة ، هو هذا الكم الهائل من الاحساس با التوازن في العمل الفني وهذة الاحاسيس والمشاعر لاتدرس في اكاديمية في العالم ولكنها تولد مع الفنان ومن خلال الخبرة يوصلها الفنان الى درجة عالية من الاحساس بهذا التوازن ،وهذا ما نجدة في اعمال الجالوس التي تتسم كل لوحة بتصميمها الخاص دون تكرارية للشكل برغم الاتساقية العامة للمرحة كاملة فمجموعة هذة السلسلة الاخيرة تتسق بفكرتها وتختلف فيها التكوينات الانشائية من لوحة لاخرى.
- فنان تشكيلي وناقد