- د. عبدالعزيز المقالح
لا أريد بهذا البحث الموجز أن أتناول ظاهرة القطبية الشعرية كما تعبر عن نفسها في عدد من الأقطار العربية، وكما تمثلت بوضوح عند شاعرين كبيرين في مصر العربية هما: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. فقد استقطب كل شاعر منهما جمهوراً يلتف حوله ويدافع عن إنجازاته، ويباهي بما حققه في شعره من أحلام الناس وتطلعات الوطن. وقد نجحت هذه القطبية الثنائية في اختزال الحركة الشعرية في مصر في هذين الشاعرين، وتمكنت من إخفاء أسماء عشرات الشعراء المجايلين لهما. وكان نقاد المرحلة في طليعة من اعترف بهذا الاختزال، وأكد سلامة تعبيره عن الواقع الشعري الذي كان سائداً في النصف الأول من القرن العشرين. وقد تجلت الظاهرة- وإن بمستويات أقل- في عدد من الأقطار العربية، وبدأت في العراق مع الشاعر معروف الرصافي ومعاصره جميل صدقي الزهاوي، وتناسلت في السياب والبياتي، كما تناسلت في مصر في صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وصار لها حضور في أقطار عربية أخرى. ولم تعترض المجتمعات المعنية بالثقافة الأدبية على هذا النوع من القطبية، ودخلت عالم النقد الأدبي كظاهرة فرضت نفسها وصارت أحد عناوين الدرس الأدبي في شكليه التقليدي والحديث، فالأبحاث الأدبية في الشعر تبدأ الحديث عن أشهر شاعرين وأكثرهما استقطاباً للمشاعر وحضوراً في حياة الناس ووعيهم الأدبي. ولم أجد في حدود ما قرأت بحثاً موجزًا أو مفصلاً عن هذه الظاهرة وكيف بدأت؟ وكيف تلقّاها قرّاء الشعر قبل أن تصبح واقعاً معترفاً به ولم تعد محل شك أو إشكال. ويمكن الحديث هنا عن الظاهرة كما تجلت في حياة شاعرين كبيرين هما: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، واختزلت الحركة الشعرية في مصر في هذين الشاعرين بعد أن احتجز الشاعران القطبان الاهتمام الشامل ونالا حَظوة من المهتمين بالشعر في مصر وغيرها من الأقطار العربية. ومن المهم التنبيه إلى أن كلاً من حافظ إبراهيم وأحمد شوقي لا ينتميان إلى مدرسة واحدة ولا يعكسان حالة إبداعية متساوية؛ فقد كان حافظ إبراهيم أقل حظاً من صاحبه موهبة وثقافة، وبرغم ذلك فقد أحرز الكثير من الأنصار والمشايعين للقطبية، بينما كان أنصار شوقي قلة من المتابعين للشعر في المستوى الأرقى فناً وإبداعاً.
ورغم الحديث عما بين الشاعرين من تفاوت في مستوى الإبداع، فقد استطاعا بإنتاجهما الغزير المتابع شعرياً للقضايا السياسية والاجتماعية تحقيق حضور منقطع النظير جعل من قطبيتهما ظاهرة جديرة بالدرس والمتابعة النقدية. وكان واضحاً أن هذين الشاعرين الممثلين لأول قطبية في الشعر العربي المعاصر، قد كانا على وفاق تام لكن أنصارهما – وأنصار حافظ خاصة- كانوا لا يعترفون بهذا الوفاق ويعتبرونه ظاهرياً، وكانوا يختلقون من الخلافات ما لا أساس له في حياة الشاعرين، في حين كان الجمهور المتابع لهذه الخلافات المختلفة سعيداً لما تشيعه من التنافس الخلاّق، وقد انتقل، أنصار حافظ بالخلاف من منطقة الإشاعة واختلاق الخصومة إلى الحديث عن الموقف السياسي الذي كان في البداية على درجة عالية من الوضوح بين شوقي ربيب القصور، وحافظ ربيب الشارع الشعبي ، بين مَن لا يرضى عن النظام ومَن يقف إلى جواره.
ومن الطبيعي أن تجد هذه الخلافات المختلفة طريقها إلى النقاد، وأن تحدث انقساماً في الموقف النقدي، لا سيما عند الحديث عن شوقي في مرحلته الوطنية وفيما يمثله شعره من قيم فنية عالية مقارنة بشعر حافظ المتواضع فنياً. وقد احتاج هذا الموقف الموضوعي والمحايد وقتاً طويلاً وجيلا جديداً يتقبل الأمور بمنطقها العلمي لا بموقفها العاطفي الشعبوي. لقد نجح شوقي في مرحلته الوطنية وبعد نفيه من مصر إلى إسبانيا أرض أندلس القديمة، فألهب كل من النفي والمكان شاعريته الخصبة فكتب أجمل قصائده وأكثرها خلوداً وناهض الاحتلال بأعنف وأعمق لغة شعرية، كما تجلّى حبه لمصر وحنينه إلى أرضها وسمائها ونيلها وناسها، ومن ذلك هذان البيتان من قصيدته (السينية) الشهيرة:
وطني لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس؟
وفي قصيدته (النونية) التي أشار فيها إلى حافظ إبراهيم ودعاه.. بوصفه شاعر النيل إلى أن يتذكر زميله نزيل المنفى.. وبعد عودة شوقي إلى مصر زاد موقفه الوطني وتجلّى في دفاعه عن الحرية وإدانة العبودية وتسلط الحاكمين بأمرهم:
زمان الفرد يا فرعون ولّى
ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرضٍ
على حكم الرعية نازلينا
وما فرعون المخاطب هنا سوى كل طاغية جائر يرى الحاكم سيداً والمواطنين عبيداً ورعايا، وذلك موقف متقدم يتجاوز وطنيات حافظ بما لا يقاس، ومع ذلك فقد ظل الطرف المساند لحافظ متمسكاً بموقفه يرى في قطبه المفّضل شاعراً للشعب وشاعراً للوطنية. ولم يكن همنا في هذا البحث الموجز أن تثبت أي الشاعرين الكبيرين أكثر وطنية أو أوضح موقفاً في سياسة وطنه، بل كان همنا الأول والأخير إثبات القطبية التي استأثرت بالقراء والنقاد، وبالمناسبة فقد كنت في كتابي (عمالقة عند مطلعالقرن العشرين) الصادر عن دار الآداب بيروت، (1982)م، قد أفردت فصلاً لهذين الشاعرين الكبيرين، وحاولت بكل موضوعية أن أتتبع أبعاد الفارق بين شاعريتهما، وتوقفت طويلاً عند مرثاتي الشاعرين لزعيم مصر الأشهر سعد زغلول، وكان حافظ إبراهيم قد افتتح مرثاته بهذا البيت الضعيف بكل المقاييس النقدية:
أيها الليل هل شهدت المصابا
كيف ينصبّ في القلوب الضبابا
أما أحمد شوقي فقد، افتتح مرثاته بهذين البيتين المثيرين للدهشة وهما:
شّيعوا الشمس ومالوا بضحاها
فانحنى الشرق عليها فبكاها
ليتني في الركب لما أفلتْ
يوشع همت فنادى فثناها
و(يوشع) المشار إليه في البيت الثاني كما يشير محقق ديوان شوقي هو واحد من أنبياء بني إسرائيل القدماء، كان منخرطاً في حرب مع أعدائه عندما بدأت الشمس تجنح إلى الغروب، بعد ما لاحت بشائر النصر فطلب من الشمس أن تتوقف عن السير حتى يكتمل انتصاره وتعود إلى مواصلة مسيرتها.
وهنا أعود لأكرر القول إنني- والحديث عن قطبية ثنائية في الشعر – لا أقف إلى جانب طرف من ممثلي القطبية بقدر ما أسعى إلى توضيح أبعاد الخطر في تعصب طرف دون طرف آخر، ووصول التعصب إلى درجة تضيع معها معالم الجماليات الفنية وتتحول فكرة القطبية إلى صراع بين طرفين، أو إلى صراع من طرف واحد. كما أكرر هنا دعوة الباحثين الشبان إلى تناول هذا الموضوع وتعميقه وتتبع ظاهرته في أكثر من قطر عربي، والأدلة الأولية التي بين يدي الآن تؤكد وجود هذه القطبية الثنائية في أكثر من قطر عربي، وتنقلها أحياناً من جيل إلى آخر مثلما هو حالها في مصر العربية، حيث انتقلت من جيل شوقي وحافظ، إلى جيل صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي.
- نشر المقال في مجلة الشارقة الثقافية