حوار أجراه ـ السيد حسين
يؤكد الروائى والقاص اليمنى وجدى الأهدل، أن الحرب تركت آثارها على المشهد الثقافى اليمني، وتوقفت المجلات والملاحق الثقافية عن الصدور، والمثقفون أنفسهم هاجر نصفهم على الأقل إلى بلدان أخرى. وتخلو اليمن الآن من دور النشر، والكتب التى تسمع عن صدورها لأدباء يمنيين، إما صدرت من القاهرة أو بيروت. لكن هناك مبادرات تلوح هنا وهناك لإحياء النشاط الثقافى والأدبي.
< الروائى وجدى الأهدل كل مبدع له حكايته الحميمة مع نصه الأول.. ماذا عن خطوتك الأولى فى أرض الكتابة؟
بدأت بكتابة رواية تاريخية عنوانها “الومضات الأخيرة فى سبأ”، كنت مفتوناً بقصة الفأر الذى قرض أساسات سد مأرب وتسبب فى انهيار الحضارة السبئية، وما تلا ذلك من هجرة جماعية للقبائل باتجاه العراق والشام، لا شك أن هذا الفأر الأسطورى هو رمز لفساد الطبقة الحاكمة الذى يؤدى إلى انهيار الدولة فى نهاية المطاف، الطريف فى الأمر أننى حاولت عدة مرات طباعتها، لكن فى كل مرة يحدث شيء ما يحول دون طباعتها، لقد قمت بإتلاف أصول الرواية، محاولاً تأجيل إصدارها إلى حين ينضج أسلوبى الأدبى، بحيث أكون قادراً على كتابتها بصورة حسنة.
< روايتك الأخيرة “أرض المؤامرات السعيدة” ماذا عنها؟
هناك صورة مسبقة عن الأدب اليمنى بأنه متأخر فنياً عن الأدب المكتوب فى البلدان العربية الأخرى.. وهذه الرواية التى أخذت خمس سنوات من عمرى لم تكن سيئة.
< كيف تقيم المشهد الثقافى والأدبى اليمنى حاليا؟
تركت الحرب آثارها على المشهد الثقافى اليمني، لقد توقفت المجلات والملاحق الثقافية عن الصدور، والمثقفون أنفسهم هاجر نصفهم على الأقل إلى بلدان أخرى. يخلو اليمن الآن من دور النشر، والكتب التى تسمع عن صدورها لأدباء يمنيين إما صدرت من القاهرة أو بيروت. لكن هناك مبادرات تلوح هنا وهناك لإحياء النشاط الثقافى والأدبي، مثل نادى السرد فى عدن، ومنتدى الحداثة والتنوير الثقافى فى صنعاء، ومجلة المدنية التى تنشر موادها باللغتين العربية والإنجليزية، مع الأخذ فى الاعتبار أنها إليكترونية فقط، وحركة إنتاج الأفلام السينمائية بجهود شبابية مثل فيلم “عشرة أيام قبل الزفة” وإنتاج المسلسلات الدرامية المحلية التى يشتد الطلب عليها فى رمضان.
< ماذا عن دور المؤسسات الثقافية فى اليمن.. هل تقوم برعاية المبدع أم أنها أصبحت بيئة طاردة للإبداع والمبدعين؟
أهم مؤسسة ثقافية فى اليمن هى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وهذه المؤسسة أغلقت مقراتها وتوقفت عن النشاط. مؤسسة السعيد الثقافية التى يرعاها أكبر بيت تجارى فى اليمن تعرض مقرها للدمار ونُهبت مكتبتها. وإجمالاً فإن الوضع الحالى فى اليمن لا يقدم أيّ عون للمبدع، وعلى المبدع أن يتدبر لقمة عيشه كيفما اتفق.
< هل أصبحت المعاناة أزمة ملازمة تصاحب المبدع اليمني؟
مع الأسف لقد تجاوزت معاناة المبدع اليمنى حدود الاحتمال، وعلى سبيل المثال فإن الفنانين التشكيليين اليمنيين كانوا قادرين فى السنوات الماضية على العيش من عائدات بيع لوحاتهم للسياح الأجانب، ومن المعارض الفنية التى يقيمونها، حيث كان أغلب المشترين من أعضاء السلك الدبلوماسى ورجال الأعمال، وأما اليوم فقد اختفى أولئك المشترون، واضطر غالبية الفنانين إلى مزاولة أعمال أخرى.
< فى “أرض المؤامرات السعيدة” تطرح الكثير من القضايا الشائكة هل الرواية تروى الواقع اليمنى بعين الكاتب والمثقف؟
الرواية تروى الواقع بعين الجغرافي.. أحب كثيراً زاوية النظر هذه إلى البلد والمجتمع. أيّ أن السرد هنا محايد، وأشياء كثيرة تثير دهشته، تلك الدهشة التى فقد المواطن العادى الإحساس بها لطول عهده بها.
< شخصيات الرواية مطهر، ووالده المناضل اليساري، الفتاة الثرية، ووالدها كم اقتربت من الواقع؟
شخصيات الرواية واقعية ولها حضورها الملحوظ نسبياً فى المجتمع اليمني. فمثلاً جيل الستينيات فى اليمن كان مقسوماً بين اليساريين بمختلف أطيافهم الماركسية والقومية، وبين المحافظين الذين ركزوا أهدافهم فى الصعود الاجتماعي.. لقد كان الصراع على أشده بين الطائفتين، وأعتقد أن الجميع يعلم اليوم من الذى خرج منتصراً فى النهاية.
< هل تشبهك شخصياتك أم تشبه الواقع؟
الشخصيات لها إسناد من شخصيات حقيقية من لحم ودم. وأفضل ما يرجوه أيّ مؤلف هو أن ينجح فى جعل شخصياته المتخيلة صادقة فنياً، أيّ أن تعطى للقارئ إحساساً بأنه قد التقى فعلاً فى حياته اليومية بتلك الشخصيات المذكورة فى الرواية.
< يقول بورخيس “نحن لا نسكن إلا الأماكن التى نغادرها” فهل تستحضر قريتك ويحضر الحنين والذاكرة حين تكتب؟ وكيف تتعامل عموما مع المكان وسلطته؟
المكان الذى نولد فيه هو القدر الذى يشكلنا، إن مصير الإنسان مرتبط بالأرض ارتباطاً عميقاً للغاية، ونادراً ما يتمكن إنسان ما من التمرد على هذه الحتمية الجغرافية. لكن هذا الكائن الذى يسمو إلى التمرد على قدره هو البطل التراجيدى المناسب تماماً لرواية عظيمة.
< لماذا جاء اعتمادك على الفانتازيا فى رواياتك بشكل كبير؟
رواية “أرض المؤامرات السعيدة” تقوم فكرتها الأساسية على أن شيخ قبيلة اغتصب طفلة عمرها ثمانى سنوات. فى عالم الواقع الذى حدث فعلاً هو أن القضاء حكم ببراءة المتهم، ولكننى فى الرواية أحببت أن أشطح قليلاً، فذكرت أن القضاء قد أصدر حكمه بأن الطفلة هى التى اغتصبت شيخ القبيلة وحكمت عليها بثلاث سنوات سجنا! طبعاً هذه مبالغة فانتازية، لكنها مقصودة، لأجل إثارة أكبر قدر من الكرب فى نفس القارئ.. لذلك سمعت عدداً من القراء يشتكون من أن الرواية سوداوية! نعم هى كذلك حقاً، ولكن مهما تأذت مشاعر القارئ، فإنها لن تصل إلى حجم الأذى الذى شعرت به تلك الطفلة المغتصبة – الحقيقية – وهى ترى مغتصبها يفلت من العقاب.
< كان توفيق الحكيم يقول “صاحب الحياة السعيدة لا يكتبها بل يحياها”.. هل ما كتبته هو حياتك غير السعيدة؟
مقولة توفيق الحكيم صائبة، لاشك أن الإنسان السعيد ليس بحاجة إلى التعبير عن نفسه عبر الفن والأدب. لكنه يحظى بهذه الثمار لتزداد موارد سعادته. لذلك الأديب والفنان هو شخص قرر أن يتنازل بإرادته عن سعادته الشخصية ويعانى لكى ينجح فعلاً فى إبداع شيء جديد. إن خلق عمل فنى جيد يحتاج من مبدعه إلى استبعاد متع كثيرة من حياته.. هذا الحرمان الطوعى ضرورة ليركز على عمله الإبداعي.
< هل يجد الروائى المنتمى إلى مشهد متعدد العرقيات والمذاهب صعوبة فى أن يكتب ما يعتبره “حقيقة روائية”؟
الحقيقة الروائية هى هذا التجريد للكائن الإنسانى من الأقنعة التى يتخفى خلفها.. فالشخص الذى يحمل فى داخله نوازع إجرامية خطيرة كالرغبة فى سفك الدماء، سوف يجد رخصة لظهور هذه القابلية للقتل والتعذيب وسواها من الممارسات السادية عن طريق الانتماء إلى جماعة سياسية أو دينية عنيفة. طبعاً هذا الكشف الروائى عن قناع السياسى والمتدين وإظهار الوجه الحقيقى لهما قد يكلف الكاتب حياته.
< صدر لك العديد من الإصدارات الروائية والقصصية كيف ترى تلك الرحلة الأدبية؟
لا أشعر أننى كتبت أعمالاً جيدة.. لكننى مستمتع بالرحلة نفسها. لقد كان طموحى فى سنوات المراهقة أن أجمع نقوداً وفيرة لأعيش حياة عادية، وقد جربت حظى فى مهن تجارية مختلفة لكننى لم أوفق. الآن حين أتذكر تلك السنوات أدرك أنه كان من حسن حظى أن فشلت فى التجارة. فأن يقضى المرء حياته بين قراءة الكتب وتأليف الكتب لهو حظ جيد، وإن لم يحصل على مقابل عادل يوفر له المتطلبات الأساسية للحياة مثل المسكن والأمان المادي.
< لماذا أثارت روايتك الأولى “قوارب جبلية” كل هذه الضجة؟
اتجهت إلى دمشق، وصرحت بأننى فى لبنان للتمويه. ومع ذلك انكشف الأمر وصدرت بحقى مذكرة من الإنتربول للقبض عليّ، ولم ينجح الأمر لأن سوريا لم تكن موقعة على اتفاقية تبادل المجرمين عبر الانتربول. والشاهد أن رواية “قوارب جبلية” ليس فيها إساءة للذات الإلهية، ولكن فيها إساءة للذات الرئاسية والطبقة السياسية الطفيلية التى كانت تتغذى على خيرات الشعب اليمنى ولا تقدم له شيئاً بالمقابل.. لقد صادرت السلطة جميع نسخ الرواية، ثم شنعوا بأن فى الرواية إساءة للذات الإلهية! كيف يمكن أن أنفى هذه التهمة، وقد صودرتْ جميع النسخ؟! لقد قامت السلطة بتحريض العامة، فلم يكن هناك مفر من الذهاب إلى المنفى.
< تقول “لا شك أن الرقيب الداخلى يشبه عفريتاً لا يكف عن الخروج من القمقم مهدداً متوعداً كلما جلستُ إلى الطاولة لأكتب”. فكيف أثرت عملية النفى والعودة على طريقتك فى الكتابة؟
نعم لقد تأثرت طريقتى فى الكتابة من جوانب عدة، فمثلاً رواية “قوارب جبلية” التى أثارت حفيظة السلطة هى رواية تجريبية، لا تلتزم بالحبكة، والشخصيات تظهر وتختفى بطريقة فوضوية.. كنت مفتوناً بالتجريب. لكن بعد تجربة الصدام مع الرقابة والعيش فى المنفى اكتسبتُ منظوراً مختلفاً للأدب… وأخذت أدرك أن لدى التزاماً معيناً تجاه القارئ
< هل كسر التابوهات مسألة ضرورية فى الإبداع الأدبي؟
التابو لا يقف عائقاً أمام الأدب فقط، إنه يعيق أيضاً التقدم العلمي. وإلا بماذا تفسر أن الدول العربية متأخرة علمياً بينما الدول المتحررة من التابو متقدمة علمياً؟! واضح وضوح الشمس أن التابو هو حاجز أمام التفكير الحر والإبداع الحر والإنجاز العلمى الحر.
< هل تصنف نفسك ضد السلطة؟
بالعكس من المفيد أن تكون للكاتب علاقة ودية مع السلطة، لكننى أيضاً مع فكرة إيجاد مسافة بين الكاتب والسلطة، المسافة الصحية لكى يكون قادراً على نقدها وتبصيرها بأخطائها. أية سلطة فى العالم مُعَرَّضة للوقوع فى الأخطاء، وواجب رجال الفكر والأدب والعلم التحرك بسرعة للتحذير من العواقب. وبالطبع عندما يقوم أشخاص مستنيرون بالكلام عن تصحيح الأخطاء مثل إصدار قانون لمنع زواج القاصرات، فإن فئات عديدة داخل المجتمع سترفض هذا الإجراء، لأنها لا تهتم كثيراً بتأهيل المرأة علمياً، ولا تأبه لحرمان المرأة من حقها فى نيل فرصة أوسع فى الحياة.
< لا تنفصل أعمالك عن الانشغال بقضايا سياسية وتحولات اجتماعية بشكل يقربها نقديا إلى حد ما.. ما تصورك عن دور الأدب؟
أمر رائع أن أكتب على هواى دون قيد أو شرط، ولكن مع الأسف أنا لست كاتباً إسكندنافياً، ولا أنا أكتب للمجتمع الأمريكى المتخم بالثروة. لابد أن ينتبه الكاتب العربى عموماً إلى وضع بلده وأمته ككل، وأن يشارك فى الحل عن طريق عمله الفني.
< ما السر وراء كل هذا الشغف بالأمكنة؟
المكان هو الذى يُشكل الشخصية. للمكان سحره الذى لا يُقاوم. قال الأجداد إن الأرض شبر بشبر، أيّ أن هناك أرضاً تجلب لك الحظ، وأخرى مهما تبذل من جهد لا تعطيك مرادك.. المكان ليس مجرد ديكور أو خلفية للحدث، كل مكان يحمل روحه الخاصة، له طاقة روحية تختلف من شخص لآخر. لذلك أعمل على المكان وأضع فى حسبانى تأثيره على الشخصيات.
< يرى البعض أن الكثير من أعمالك الروائية تعتمد على التاريخ.. فهل هذا أفادك؟
أحببت قراءة الروايات التاريخية وفُتنتُ بها. أتذكر مثلاً رواية “الحروب الصليبية كما رآها العرب” لأمين معلوف. وقد شرعت عدة مرات فى كتابة روايات تاريخية، ولكن حتى الآن لم أتجرأ على نشر رواية تاريخية.. والسبب هو النقص فى المعلومات، فكما ذكرتُ لك سابقاً، لدى رواية تاريخية عن مملكة سبأ، لكننى لا أمتلك معلومات تفصيلية عن ديانة عبادة إلمقه “القمر” معبود السبئيين.. إذا لم أفهم لماذا كانوا يعبدون “القمر” فإننى سأظل عاجزاً عن فهمهم.
*نقلا عن الأهرام