- ضياف البراق
صاحبي الماركساوي لا مؤمن ولا ملحد، لا مجنون ولا عاقل. رُبما قد يكون مُحايدًا أو مُعتدِلًا، أو هكذا أعتقد. لكنه مُحِب للجميع كمثل أي متصوف حُر. وهو في الحقيقة يؤمن بالحب كدين إنساني عالمي أسمى. إنسان طيّب، قليل الادّعاء، كثير البساطة والقَلَق. أجمل ما في الدنيا هم الطيّبون من جميع الكائنات. العالم يموت من قلة الطيبين. والعالم كذلك يموت من كثرة الأوهام والخرافات، يموت خوفًا. ويرى أن غِنى النفس هو المنبع الوحيد للسعادة، غير أن أغلب البشر يبحثون عن السعادة في اللا شيء أو وراء ظهورهم. ثُمَّ إنهم على الدوام يلهثون وراء الشهرة وحُب الظهور، ولهذا هم تعساء من الداخل. العظماء هم دومًا خلف الأضواء. ومن معاني الأرض في قواميس العربية: البسيطة. إذن الدنيا بسيطة حقًا، وعلينا نحن جميعًا أن نكون بسيطين مثلها؛ لكي ننعم بالرخاء والسلام. التعقيد عبث. المغالاة عبث. الإسراف عبث. على كل إنسان أن يتواضع ولو قليلًا من أجل سلامة الحياة الإنسانية من حرائق الأنانية والعبث والعنف. معنى الحياة يكمن في البساطة. أو لنقل متعة الحياة تكمن في البساطة. ويتابع كلامه البسيط الصادق، قائلًا: مشكلة هذا العالم أنه متطرف في كل شيء. إنه متطرّف باستمرار. كان التطرّف وراء أكثر مشاكل ومآسي البشرية، منذُ القِدَم وحتى اليوم. وهو أيضًا سِرُّ تخلُّفنا ومتاعبنا في كل الوطن العربي خصوصًا. أجل، الناس عندنا متطرفون حتى من أجل أتفه الأمور. دائمًا يقتلهم الكلام الفارغ. الفارغون يأكلون أنفسهم حتى التَّلف، ولكنهم لا يدركون ذلك.
قبل هذه الحرب اللعينة، كان صاحبي سطحيًا أكثر من اللازم. الحرب جعلته ناضجًا. “لا تندم على حربٍ أَنضجتْكَ” يقول محمود درويش. لا شك في أن الإنسان ينضج في ظل المعاناة، لكنْ، ليس كل إنسان يستفيد من المعاناة أو يتعلّم من دروس التاريخ أو من أخطاء نفسه على الأقل. وكان صاحبي قد قرأ أغلب أعمال العدميين الغربيين، وتأثّر بهم لحد التماهي. لم يعد عدميًا في الوقت الراهن. لعل هذا الوباء اللعين «كورونا» قد أصابه بالشفاء من داء التشاؤم التدميري. أحيانًا، نجد الدواء في الوباء، والخير في البلاء. وقال لي إنّ مأساة العدمي تكمن في أنه ينظر إلى الحياة من منظار أسود. المنظار الأسود يجعل الحياة سوداوية تمامًا. على أن الأسوأ من العدمي، هو رجل الدين الذي يسعى للتحقير من قيمة الحياة التي لا أعظم منها، ويحرّض الناس على احتقارها؛ لكي ينالوا نعيم الآخرة! لا يحتقر الحياة إلا عديم الحياء. نتفق أنا وصاحبي على أن أعداء الحياة هم دعاة الظلام، أولئك الذين يقفون عادةً ضد تطوير الحياة؛ قائلين بأنها ليست سوى قنطرة عبور إلى الآخرة الأحلى والأخلد! يعني لا بد أن نجعل الحياة جحيمًا لحتى ننال نعيم الآخرة. غير أن الله لا يهب نعيمه لمن لا يقدِّس هذه الحياة أو لا يخدمها. يجب أن نحتقر أعداء الحياة وليس الحياة نفسها. والمثقف الحقيقي لا يحتقر الحياة أبدًّا بل يحتقر من يجعلها حقيرة أو قذرة. ثم إنّ الذي لا يحب الحياة فلن يعيش إلا ذليلًا. أمّا الذي يحب الحياة بكل صدق وعطاء، فهذا يعيش عزيزًا وكثيرًا. (مَن قال: من أحب الحياة عاش ذليلًا؟).
وهذا الماركساوي البسيط، النقي الروح، يعيش حياته هذه الأيام بالطول والعرض، كأنما هذا العالم المنكوب لا يعني له أي شيء. وبالأصح يتألم من أجل العالم أجمع ولكن في صمتٍ عميق، والصمت خير من الضجة. وبالأمس انتهى للمرة الثانية من قراءة واحدة من أروع الروايات العالمية على الإطلاق؛ رواية “العمى” للبرتغالي العظيم جوزيه ساراماغو. وحبيبنا جوزيه لا يخطئ أبدًا إذ يقول: ما أصعب أن يكون المرء مبصرًا في مجتمع أعمى! والخوف عند جوزيه “سوف يبقينا عميانًا”، وأمّا العمى “هو أيضًا أن تعيش في عالم انعدم فيه كل أمل”. وجوزيه ما زال للآن يتساءل على هذا النحو المؤلم جدًّا: “ماذا تعني الدموع عندما يفقد العالم كل المعاني؟”.