قصة قصيرة
- سام الخطيب
في آخر زيارة لها لمحل العطور الذي يعمل فيه كانت قد طلبت منه أن يختار لها نوعية العطر حسب ذائقته وخبرته في العطور التي يبيعها منذ زمن، بدوره اقتنص الفرصة التي لاحت أمامه كبرق وعرف أن هذه اللحظة هي لحظة السيطرة على مشاعرها، كيف لا وقد ألقت الكرة بملعبه وهو اللاعب الخبير في هذا المجال والفارس الذي لا يُشق له غبار في ترويض أعتى المزاجات الأنثوية تقلباً وتكبراً.
وقعت عينه على قنينة عطر مفتوحة يستخدمها كعينة يحتذي منها الزبائن قبل أن يقرروا شراءها، كانت قنينة سوداء أنيقة مقسومة إلى نصفين عليها غطاء كخوذة على رأس ملكة ، يتوسطها طابع وردي كالوشم على جسد فاتنة سمراء مكتوب عليه اسم العطر باللغة الانجليزية (Black Opium ).
رفعت الشرشف الذي كان يغطي على عينيها فبرزت عيناها الواسعتان كمها شارد، أضرمت نظرتها النار في قلبه المتربص لها شوقاً منذ رآها أول مرة في المحل، حارت الأفكار في رأسه وتشتت الكلام الذي كان قد نظمه لوصف هذا العطر الذي يتخذ منه كصديق ساحر يوقع ضحاياه في بحر الغواية، عدا هذه المهرة المتكبرة التي استعصى عليه ترويضها لكنه يراها قد حطت قدماً في أحد شراكه التي انتظر وقوعها فيه لوقت طويل.
تحدثت إليه: “سأشتري هذا العطر وعلى ضمانتك”، حينها ابتسمت روحه خلسة منها وعرف أن اللحظة التي انتظرها طويلاً قد دنت وأنه آن له أن يرمي شباكه لجلبها، فابتسم ابتسامة عريضة قائلاً:” اشتريه وعلى ضمانتي واذا لم يعجبك فسوف أعيد لكِ نقودك، بعدها بدأ بقراءة كلمات اقتبسها من منشور طويل لصديقه “خلدون الهلالي” في وصف هذا العطر الخرافي كان قد حفرها في ذاكرته كنقش بغية هذه اللحظة ثم استرسل في وصف العطر كما ورد في نص خلدون ” عطر بلاك أوبيوم بلمسة الساحر أيف سانت لوران الذي جاء كتفاعل كرنفالي بهيج من زهور البرتقال وفاكهة الكمثري رمز الغواية الجسديه كونها إشارة شعرية للصدر وفي قلب العطر ينام الياسمين الدمشقي وفي آخر خيوط الرائحة تبدو القهوة السوداء تتمه لمهرجان اللذة”.
نظرت بعينيها الدعجاوين بنظرة يملؤها الدهشة، كيف له أن يتجرأ معها بالحديث بهذه اللغة، لكنها وبلحظة استجابت لتلك اللغة التي بدى له أنها قد أوقعتها في شباك الحرف التي رماها إليها، ثم طلبت منه أن يعطيها رقمه لتتصل له وتعطيه رأيها في العطر الذي اختاره لها.
مر يومان وهو أسير أفكاره يكتوي بنار الانتظار يترقب رنة من هاتفها الذكي ليسمع كلمة الشكر عن اختياره الفريد لعطرها، وهو مزهواً بأحلامه كأنه هو من اخترع هذه التركيبة العطرية الساحرة التي توقع أي أنثى في الغواية حد زعمه.
في اليوم الثالث بعثت له رسالة قصيرة على برنامج الواتساب تشكره على اختياره الذكي وذائقته الفذة، قرأ الرسالة عشرات المرات والدنيا تكاد أن لا تسعه من الفرحة وهو يرقص فرحاً وزهواً بنجاحه في اصطياد فريسته.
لم تعاود الإرسال أو الاتصال به، لكنه كان يستمر في نسج خيوطه عبر إرسال رسائل قصيرة عبر حالة الواتساب التي خصصها لها، كانت كل الرسائل اقتباسات من نص صديقه خلدون الذي كتبه في وصف هذا العطر، ونصوص أخرى اقتبسها من مقولات عن العطر وأثره على البشر.
بعد مرور شهرين من الانتظار واللعب على وتر الحرف من قبله، عبر رسائل أثيرية في حالة الواتساب الخاصة به جاءه اتصال منها، اخبرته بأنها ستزوره في اليوم التالي وستشتري ثلاث قناني من نفس العطر لها ولصديقتيها، وإن أتيح لها ستطبع على شفتيه قبلة عميقة تشكره على إدخالها إلى هذا العالم الجديد الذي يبدأ برشة عطر وينتهي في واحة من السعادة المقترنة بالخيال.
لم ينم ليلته وضل مترقباً بلوج الفجر يعد الثواني والدقائق والساعات حتى يلتقي بفاتنته التي طال انتظارها، لكنه عند الصباح تفاجأ بإعلان حظر التجوال الكامل بسبب انتشار فيروس كورونا، ولا زال منتظراً حتى اللحظة.