نَعم، العالم اليوم ليس بخير، ولكن كورونا اللعين لن ينتصر على إرادة الإنسان المُحِب للحياة. أقول ذلك الهراء، مع أنني أعلم جيدًا أن العالم ليس بخير منذ آدم، وأن الإنسان وحده هو سبب شقاء الإنسان، وهو المسؤول أيضًا عن شقاء الطبيعة بل وشقاء كل شيء. ثم إنّ لا وجود لتحضُّر أهل هذا العصر، لا وجود له على أرض الواقع. إننا نمارس الحب الإنساني على مستوى اللغة فحسب، نمارسه على الورق فقط. لقد جعلنا الحُبَّ مجردَ مسرحٍ للتسلية وإنتاج الزيف المتعدد الألوان. لدينا شعارات إنسانية رائعة، وهي لا تُحصى، نردِّدها في كل آن، حتى ونحن نيام. ترديد وتكرار الشعارات على الألسنة، أو تحويلها إلى يافطات تُرفع في الشوارع، أسهل بكثير من جعْلِهَا فِعلًا له حركة في الواقع، حقًا لا شيء أسهل من الكلام. المشكلة أننا، باستمرار، نتطور ماديًّا، أيْ نتحضّر شكليًا أو سطحيًّا فحسب، ولكننا لا نتغيّر في العُمق، لا نزدهر من الداخل، إنّ نفوسنا المريضة لم تعرف الحب الحقيقي بعد. التحضُّر الشكلاني لا يغني ولا يسمن من جوع. طبعًا، أيّ شيء ينخرب في هذا الكوكب التعبان، إنما ينخرب، دائمًا، على يد الإنسان وحده. الطبيعة لم تعد تحترمك أيها العالم الكاذب والمعتوه معًا. لا أدري إلى متى سيظل هذا الإنسان مجرد مُخرِّب، أو أي شيء كهذا. ثم إنّ الإنسانَ مطبوعٌ على الغرور، والغرور عادةً لا يؤدي إلا إلى الفساد والخراب. فشلَ الفلاسفة عبر التاريخ أن يغيّروا الطبيعة البشرية والدفع بها نحو الأفضل، أعني عجزوا أن يجعلوني إنسانًا حقيقيًا ساميًا، لا وحشًا ولا شبحًا، آه ما أتعسني! حتى الأنبياء، جميعهم لم ينجحوا في جعلنا إنسانيين حقيقيين، والعتب كله علينا. هذا يعني أن الإنسان، رغم كل شيء، يعشق العبث بكل جنون، وبالتالي سيفشل أو سيزول كل خير على يده. إنه يداوم على العبث من أجل مزيدٍ من الدمار. يقال: إنّ الإسلحة القذرة التي صنعها إنسان اليوم (المُتحضِّر!)، تكفي الآن لتدمير كوكب الأرض عشرين مرة، على الأقل، واعلموا أنها ستزداد تطورًا وتعِدادًا في المستقبل، حتى تصير كافية لتدمير كوكبنا الأجمل مليون مرة، وربما في أقل من ساعة! ثم.. لماذا هذا الإنسان العجيب، لماذا كلما تحضَّرَ اِزداد جنونًا؟
عمومًا، لا فرق بين الذين استغلوا الدين فجعلوه آلةَ قتْلٍ ونهبٍ وإفساد وتمزيق، (كل هذا من أجل نشر الخير، طبعًا!)، وما زالوا مستمرين في نفس القتل والنهب والتضليل.. لا فرق بينهم وبين المتحضِّرين (دعاة السلام!) الذين استغلوا التطور العلمي فصنعوا أخطر الأسلحة التدميرية، على الإطلاق، وما أخطر هؤلاء جميعًا، ما أخطرهم على الحياة الإنسانية بكاملها! وأيضًا، لا فرق عندي بين القتل باسم الدين والقتل باسم العِلم أو القتل باسم أي شيء آخر.. لا فرق بين الحرب من أجل السلام، والحرب من أجل الحرب؛ ففي الحالتين، تسيل الدماء وتنخرب الأوطان وتسقط أرواح الناس كأنها مجرد أوراق عديمة النفع.. والمساكين هم من يدفعون الثمن في كل الحروب، إنهم الضحايا دومًا. نَعم، لا فرقَ بين التحضُّر المتوحِّش والتوحُّش البدائي، بل إن الأول أخطر من الأخير بكثير! القاتل قاتل، سواء قتلني وجهًا لوجه أو من وراء ستار.
الحقيقة المُرّة أن هذا العالم المنكوب بهذا الوباء الساحق، يبدو – مع ذلك – مُصِرًّا على عدم التآخي والهدوء، أو بالأصح لا يريد أن يرتاح من أعباء الأنانية والعبث، لا يريد الخروج من مسرح العنف، كأنه عاجز كليًّا عن العيش بلا مشاكل وأزمات وصراعات عنفية.. هل سيتغيّر بعد كورونا؟ طبعًا لا؛ إنه بالتأكيد لا يرغب في الاستقرار، لا يرغب في العيش الدائم في كنف السلام، وهو إذا مضى قُدُمًا، يتعمَّد أن يأخذَ معه أفكاره القبيحة، وأمراضه التاريخية الخبيثة التي تعني البقاء في الجحيم، أو بعبارة ثانية، تعني عدم الحياة.
كورونا، وهو أقذر الأوبئة لحد الآن، أكّد لي اليومَ صحة هذه الحقائق التالية:
- الحقيقة الأولى، قالها العظيم عبد الله البردوني في قصيدة هي من أروع قصائده:
لهم حديدٌ ونارٌ وهُم مِن القَشِّ أضعف!
- والثانية قالها العظيم شكسبير: ما الدنيا إلا ملعب كبير!
- وأمّا الثالثة فقد قالها العظيم، غارسيا لوركا، شِعريًا، وهي مؤلمة كثيرًا لشدة صدقها:
هذا العالم نشيّده فينهار،
ثم نشيّده،
فننهار نحن!