- د. صادق القاضي
حسب الإحصائيات ذات العلاقة بضحايا “الإنفلونزا الإسبانية” التي اجتاحت العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. فإن:
• 99٪ من الوفيات كانت أعمارهم. أقل من 65 سنة، وأكثر من 50% منهم كانوا بين 20-40 سنة، من الشباب واليافعين الأصحاء الذين هم في العادة الفئة الأقوى مناعة والأكثر قدرة على مقاومة المرض.!
هل كان ذلك الفيروس متحيزاً – كجزاء عادل- ضد الفئة القوية المسيطرة المنخرطة بالحرب، لصالح الفئات الضعيفة البريئة من كبار السن والمرضى.؟!
فيروس كورونا هو الآخر، وبغض النظر عن كونه يفتك بالمرضى وكبار السن، يبدو -حتى الآن على الأقل- أنه يحاول قلب المعادلة السائدة في العالم. ويحابي الفئات الضعيفة والمهمشة تقليدياً:
- عمرياً: يتجنب الأطفال ويستهدف المسيطرين كبار السن.!
- جنسياً: يصيب الذكور أكثر من الإناث(حسب إحصائيات جزئية).
- جغرافيا واقتصادياً وصناعياً على مستوى العالم: ينتشر في الشمال الغني المصنّع، أسرع من انتشاره في الجنوب الفقير المديون.!
- حضارياً: يتفشى في دول العالم الأول والثاني المتقدم أكثر من تفشيه في العالم الثالث المتخلف.!
- سياسياً: يعصف بالقوى الدولية المؤثرة، أكثر من القوى محدودة أو عديمة التأثير.!
- ذوقيا وربما أخلاقياً: يستهدف البيئات المستقرة الصحية القادرة، ويربأ بنفسه عن البيئات المضطربة الموبوءة العاجزة. المكتظة بالأمراض والحروب والأزمات.!
هل من المعقول أن يكون هذا التوزيع والانتقاء مجرد اعتباط غير مقصود؟!
ألا يثير الكثير من المفارقات التي يحتاج كلٌّ منها إلى تفسير.!؟
الحقيقة الثابتة المهمة في هذا المقام هي أن الأوبئة والأمراض تفتك بفئات معينة أكثر من غيرها، وأن لكل فيروس أو مرض خارطة طريق خاصة به.
هذه الظاهرة الانتقائية محيرة، وتغري بكثير من التفسيرات الميتافيزيقية كنظرية المؤامرة، أو اللعنة أو الابتلاء الإلهي.
“التحيز الفيروسي”. أكثرها جدة ووجاهة، باعتبار أن الفيروسات وبالتالي الأوبئة “موجهة” من خارجها، أو أنها واعية بذاتها وأهدافها، ومتحيزة عن سبق إصرار وترصد!
يمكن دعم هذه النظرية بنظرية حديثة ترى أن الجينات “الشفرة الوراثية” تمتلك وعيا وخططا مستقلة عن البشر وغيرهم من الحيوانات التي هي مجرد مراكب ضخمة للجينات التي تقودها.
الجدير بالذكر أن هذه النظرية تنتمي إلى “العلم الزائف”. أي الخرافة التي تحاول التلبس بلبوس العلم في تفسير الظواهر واقتراح طرائق التعامل معها.
إذاً. ما هو رأي “العلم الحقيقي”؟!
يرى العلم أن الفيروس. أي فيروس. كائن محايد. لا حي ولا ميت، لا مؤمن ولا ملحد، لا شيوعي ولا ليبرالي. لا ذكر ولا أنثى، لا يأبه بالتحيزات والعواطف، ولا يتأثر بالعقائد والإيديولوجيات، ولا بالعلاقات والصراعات الفئوية بين البشر.
هو فقط يتأثر بالعوامل المادية الطبيعية والعضوية، ويتطور داروينيا في كل الجهات، وفي كل مرة تتغير خصائصه الجينية وأهدافه وأعراضه المرضية، وبدورها تتغير خارطته الوبائية التي تحتاج في كل مرة لتفسير علمي مختلف.
فيما يتعلق بـ”الإنفلونزا الإسبانية”يفسر كثير من العلماء عدم فتكها بكبار السن عام 1918. بسبب مناعتهم الذاتية التي اكتسبوها ضد الفيروس خلال تعرضهم لـ “الإنفلونزا الروسية” عام 1889م.
هذا التفسير جزئي، لكنه علمي، وفي كل حال علينا أن ننتظر التفسيرات العلمية الكاملة لخارطة وباء كورونا. وحتى ذلك الحين تظل فكرة الانتقاء الموجَّه أو التحيز الذاتي فكرة ميتافيزيقية، حتى لو استمر هذا التوزّع كظاهرة مطردة حتى نهاية هذا الوباء الذي يبدو أنه ما زال في بداياته.
..