- ضياف البراق
مروان الغفوري متحدِّث رديء. غير فصيح، لكنه يحاول يتفصَّح. التفصُّح إملالي الإيقاع، يصيب المستمع بالتضجُّر. لا تقمعوا الغفوري، اتركوه يتمرّن على الفصاحة اللينة، الواضحة الشفّافة. شاهدتُ له فيديوهين جديدين نشرهما على حسابه الفيسبوكي، لكني لم أفهم ماذا يريد أن يقول بالضبط. الرجُل مهووس بترداد المصطلحات الفلسفية، وغيرها من المصطلحات الحداثية العميقة والطويلة، الغائبة تمامًا عن فِكْر أغلب اليمنيين البسيطين، وهذه مشكلته. شاهدتُه يتفلسف بتكلُّفٍ غير واضح، وكان يتلجلج أيضًا، كمُنظِّرٍ ناشئ. أمّا طرحه عن الأزمة اليمنية الراهنة، فأغلبه غير دقيق، أو واهٍ كثيرًا. وبدلًا من أن يُضيء الطريق للمواطن اليمني المسحوق، المُكبَّل بالقيود اللعينة، ويشحن روحه بطاقةٍ تحرُّرية جديدة، أو يستنهض هِمَّته، نفسيًا على الأقل، يفعل العكس؛ أيْ يقوم بتعتيم طريقه، أو إرضاخه على نحوٍ مزعج. محمود ياسين، بالنسبة لي كاتب مُتفرِّد، جذّاب دون تكلُّف، يتألم دومًا من أجلنا، نحن اليمنيين المسحوقين جميعًا، ويخاطبنا بقلمه العميق من مسافة قريبة وليس من فوق أو من بعيد، لا كما يفعل المثقف النخبوي المتعالي. فعلًا أحب هذا المحمود المثقف الموهوب، غير النرجسي. كان فولتير، أديب فرنسا الكبير، يقول «أنا لستُ عميقًا، ولكني على الدوام واضح». بهذا الأسلوب الفولتيري الواضح الجذّاب، الساحر السلِس لشدة عذوبته، استطاع فولتير تغيير الثقافة الفرنسية البائسة، وتحرير شعبه من الخرافات والأوهام. هذا هو العُمْق بعينه؛ لأن العميق الحقيقي هو الذي يجعل الصعب المُعقّد، سهلًا وعذبًا. العميق هو الذي يستطيع تليين الفكر المُتحجِّر، على الأقل. أو القلم الذي يرفع سقف الحرية. عمومًا، هذا شيء.
الشيء الآخر، أن الغفوري يخاطب جمهوره من فوق، مُعتبِرًا نفسه «كل شيء»، أو «المثقّف الكينج». لكنها سوبرمانية واهية. قلمه نخبوي صارم أكثر من اللزوم، ولذلك كتابته ثقيلة الظل، أو هكذا تبدو إلى مزاجي القِرائي الخاص. أعترف أنني لم أقرأ له سوى مقالاته، لكنه لم يعجبني في هذا الجزء من نِتاجه. بلا شك، هو قلم لامع بنظر أغلب المثقفين اليمنيين، وبخاصة الشباب. شخصيًا.. لا تعجبني الكتابة الصارمة لأنها جافة، عديمة روح، أو تلك التي لا تُرقِّص مزاجي وتثيره. أعشق الكتابة التي تثيرني، روحًا وفكرًا. الكتابة المَرِنة التي تُحرِّرني وتعانقني، لا التي تتكبّر عليّ بصعوبة مفرداتها أو معانيها.. أو بفوضاها الفِكرية غير المفيدة.
الفرق شاسع بين الكاتب الموهوب والكاتب المُجتهِد: الموهوب عميق دون أي تكلُّف، ويا له من بسيطٍ ساحر. المجتهد تعميقي، أيْ عميق بتكلُّفٍ وإصرار. ولذلك أعشق الكاتب الموهوب وأحترم المجتهِد. وهذا هو «التمييز» الأفضل بين العُمْق والتعميق عند الخلَّاق الكبير أُنسي الحاج: العمق فوري، طبيعي، لا يخشى العفوية. الآخر (أي التعميق) مُجتهِد، مبني على المراقبة والحفر الدؤوب. التعميق يحتاج إلى مسافة ليصنع ذاته. العمق هو ذاتهُ المسافة.
ومع ذلك، لستُ أُقلِّل من حجم الغفوري، ككاتب حداثي مُتمكِّن، ولن أفعل؛ فالنقد عندي هو تبادل الارتقاء والمحبة. وختامًا، دائمًا هناك كاتب موهوب فعلًا، لكن نرجسيّته المتعالية هي التي ستقتله يومًا.