من منا يأتي على ذكر السودان، فلا يشعر بالامتنان. كنا ولازلنا مدينون
لهذا البلد بجزء من تكويننا الأبجدي والفكري.
في أول عهدي بالدراسة، تهجيت الألفباء على يد المدرس السوداني
“مصباح”. لا زلت أتذكر قامته السامقة، وشاربه المفتول، وطلته البيضاء كملاك.
دخل الدرس الأول وبيده كيسين من “البفك”، وزع محتوياتها علينا، قبل أن
يشرع بالكتابة على السبورة.
وفي الصف الثاني، أكمل المدرس “باناقة”، مسيرة زميله. وهذا
الباناقة أقل التزاما من سابقه بالزي السوداني، ويحرص على أرتداء ملابس ذات طابع رسمي، ويظهر مع طلابه صرامة وألتزام؛ أكثر من
“مصباح” الميال للتشاجر المرح مع طلابه.
نعم، جيل كامل من السودانيين، تركوا الضفاف الخضراء للنيل الأزرق،
وسافروا مع عائلاتهم، إلى أريافنا البعيدة المقفرة، كمساهمة منهم، في إعلاء قيمة
المشترك “العروبي” الذي كان في تلك الفترة يسمو على كل العصبيات.
وفي مجتمعاتنا المحلية، كسب هؤلاء المربين، سمعة طبية، بما وجدوا عليه
من الثقافة والعفة والالتزام.
في “الأول اعدادي”، أتذكر “أزهري ياسين”، مدرس
مادة اللغة الانجليزية. ولا تزال تحضرني حيلته، في كشف الطلاب المشاغبين داخل
القاعة، من خلال انعكاس زجاج نظارته، على السبورة.
كان ينطق حروف اسمائنا -نحن طلابه- بطريقة مبتكرة لا يمكن نسيانها،
ولا أتذكر أنه يوم تغيب عن درسه، أو حضر متأخرا، بالرغم من المسافة المضنية التي
كان يقطعها بين سكنه، والمدرسة.
في الأسابيع الأخيرة تذكرته، فبحثت عن اسمه في فيسبوك، لكن شخص مثل
الاستاذ أزهري ياسين، لا ينتمي إلا لزمن تحيا فيه الأشياء داخل عوالمها الحقيقية.
لا أجمل من الأشياء حين “تتسودن”، من الغناء إلى التدين إلى
العروبة إلى الشيوعية إلى الثورة، إلى الكتابة.. ومن مثل الطيب الصالح:
من عجائب الأشياء وأنا أمر على إحدى مكتبات صنعاء، عثرت على نسخة من
الأعمال الكاملة ل”الطيب”، وأنا أبحث عن كتاب آخر. قطعت بحثي، وأخذت
النسخة إلى “الكاشير”، ولحسن الحظ كان سعرها معقولا. وباستثناء
“ورطة” الناشرين المصرين، بعدم التفريق بين الياء والألف المقصورة في
نهاية الجمل، يبدو كل شيء على مايرام.
قضيت الاجازة الأسبوعية مع قراءة ثانية ل”موسم الهجرة إلى
الشمال”، ويوم الأحد، قلت لصديقي إياد أحمد:
“ألا ترى
يا صديقي أن الأعمال الروائية العظيمة، كتبت على ضفاف أنهار؟”.