- ضياف البراق
في الوقت الراهن لا أمْلِكُ إلَّا الصمت. أو التأمل، تقريبًا. لم أعد أرغب في الكلام المرتفع حتّى مع نفسي. كنتُ أتكلّم دائمًا، أتكلّم حول كل شيء، ومن حرية كاملة وبمنتهى النزاهة، وحيثما أكون، غير أن هذا كان باستمرار يصيبني بالبؤس أو الإرهاق النفسي. لذا، سيظل صمتي أنفع من كلامي، بكثير. ها أنا أمارس الصمت، وحيدًا، مع أنني غير يائس إلا من اليأس ذاته. فإن كان كلامي لن يشفي مريضًا، أو لن يشبع جائعًا، أو لن يُسعِدَ حزينًا، أو لن يُحرِّرَ سجينًا، أو لن يُطفئ حريقًا، أو لن يغيّر شيئًا.. فهنا بالضبط يجب عليّ اِلتزام الصمت، احترامًا لنفسي، على الأقل. إنني مُذْ عرفتُ الحياة، كان الكلام، في نظري، أقلّ نفعًا من الصمت. وهنا يحق لي القول بأن الأشياء الصامتة أكثر إدهاشًا من غيرها. وهي، أيضًا، أشد استقرارًا، ونفعًا، وتأثيرًا. الثرثرة جحيم. إنها تقتل الوقت والروح في آنٍ معًا. والكلام، غالبًا، لا يكون له معنًى ما لم يتحول إلى فعل واقعي لا خيالي. لذا، لن أتكلم كثيرًا، بعد اليوم. ليس مطلوبًا منّي إزعاج الآخرين، أو إيقناع الأغبياء بجدوى الصمت. في الحرب، والحرب لغة الهَمَج وحدهم، يُصبح الصمتُ مفيدًا بالضرورة، كيفما كان، أمّا الكلام فهو الخطر بعينه. أعتقد أنّ الكلام ليس ضروريًا، خاصةً عندما يكون صوت الرصاص فوق كل شيء، أو هو كل شيء. بالتأكيد، الكلام مشكلة في كل الأحوال. إذَنْ، لستُ أُعوِّل إلَّا على التأمُّل: الصمت المُرِيح. وحده التأمل يمنحني الطمأنينة، إنه يُضيئني حتى الأعماق، داخليًا وخارجيًا. أجل، لا شيء يعرِّفني على نفسي، غير التأمُّل. والتأمل، أحيانًا، هو ذلك الكلام الصامت، النقي، الذي ينبعث من صميم الروح. زمان قال الفيلسوف العظيم سقراط، “اِعرفْ نفسك”، وهذا الإرشاد الفلسفي العميق، الموجّه إلينا جميعًا، فبلا شك لا يتحقق فعلًا إلا من خلال التأمل وحده: التأمّل في النفس، أولًا، ثُمَّ في الوجود برمته، أو العالَم بأكمله. لماذا التأمُّل؟ ببساطة تامة، لأنه هو ذاته الحرية الحقيقية، بل إنه معنى الحياة. ومعنى “اعرف نفسك”، برأيي طبعًا، أي: كُنْ حُرًا. فمن لا يعرف نفسه، لن يفهم الحياة أبدًا، وكذلك يظل عبوديًا، في تفكيره وفي علاقاته مع كل شيء، وعاجزًا عن التعايش مع الآخر، وعاجزًا، أخيرًا، عن إدراك ما هو الخطأ وما هو الصواب. الحرية، أساسًا، هي معرفة النفس. اعرفْ نفسك قبل فوات الأوان. أو بالأصح، كن حُرًّا حتى أعماق أعماقك. يعيش عبثًا مَن لا يعرف نفسه جيدًا. الكلام، قبل معرفة النفس، يظل مجردَ هراء. اعرف نفسك الآن، ثُمّ تكلَّم بما وعمّا تشاء. الضروري هو الصمت لا الكلام. الضروري، أن نتعلّمَ مما يجري في دواخلنا، وحولنا، ومن آلامنا قبل أي شيء آخر. الضروي ليس الكلام بل التأمّل. والضروي جدًا، هو أن نفكر في الحياة لا الموت: مثلًا، كيف يجب أن أعيش؟ وإلى متى؟… إلخ.
والضروري، أولًا وأخيرًا، الحرية: نظرًا وقولًا وفعلًا. بالتأمل، وفي التأمل، نكون أحرارًا حقًا. نَعم، التأمّل هو الإنسانية الأعمق، والأوسع، والأهمّ.