- محمد الشرجبي
لم أعد أعرف تماماً من ومن، ففي حالات الصاخب تختلط لدي الأمور إلى حد أني أتوه وتفوتني الذاكرة اللعينة لا سامحها الله. وحتى الإنصاف، لا أعلم أهي الذاكرة أم هو شيء أخر. في هذا الوقت تحديداً، وأقول تحديداً، تذكرت كل شيء، والدتي، الزرع، الجامعة، الله، الغنم، الأستاذة هدى معلمتي في الابتدائية، مقيل القات.أوه أوه مقيل القات، تفزعني كثيراً أماكن المقيل، يفزعني أنا أظل صامتاً أقلب وأمرر الأنظار بين القاعدين كالصنم، في الحقيقة أني أكره أن أرى الناس في التجمعات المسائية تصك وجوهها أو تقهقه، ليس لأني تعيس ولكن لعلمي بأن وراء كل ضحكة يمٌ من التعاسات وخلف أي بسمة أهرام من الأحزان،ولشغفي بالعزلة، ولإيماني التام الحاضر بأنك إن تختلي بنفسك يعني أن تنفضها مما علق بها من وهم ولتكتشفها على حقيقتها، بالأحرى أن تقعد معتزلاً ونفسك بين ساقيك لتقشرها كي تثبت لها كم هي نحيفة أو حتى هزيلة أمر لا يتم إلا بالخلوة،لذا فالإنسان ،وكما أعتقد، كائن مخدوع كذاب مالم يختلي بنفسه. هذا اليوم يوم تعس أو يوم خاص اكتشفت فيه كم نحن غرباء، وحتى غرباء إن انتقلنا من غرفة إلى غرفة أخرى تبعد خمسة أمتار، غرباء في الحقيقة حتى الضياع. ففي أول سفر قضيتها أوصتني والدتي قائلة، “إما ان تضيع وإما أن تكتشف”، فاعتقدت حينها أنها تخشى عليّ الشوارع والطرقات لكنها قصدت شيئاً أخر. اليوم كانت لنا جولة لأحد الفنادق في عدن، فندق البتراء، كان كل شيء غريب، أبهرني كل شيء، الوجوه، الكراسي، الطاولات، البناطل، حتى الأحذية، ولكن الشيء المريب هي الصدفة وهي أني قبل أيام قرأت كتاباً في فن الاتيكيت لكني لم استطع تطبيق أي شيء مما قرأته حتى أنني انصدمت من الطريقة التي تقدم بها الموائد، إذ أن كل شخص يأخذ طبق ويبدأ بالدوران والمرور على الأطباق الكبيرة المليئة بالطعام ويأخذ ما طاب له منها،ما شاء وكم يشاء. بالنسبة لي فقد تجرأت وصنعت كما صنع الباقون لكني ولسؤ الحظ خلطت اللحم مع جام الفرولة مع الجبن والبيض مع حبات الزيتون في نفس الطبق وأضفت معه قطع أخرى لم أستطع تمييز طعمها بعد إن عجزت عن تمييز شكلها ثم بدأت بالأكل، وسيراً مع المقولة القائلة أن الاكل على أي حال سيختلط في الأحشاء والمعدة لذا لا بأس إن خلطناه في الأطباق والأفواه .وكما تحكي والدتي عن جدها أنه كان يخلط التمر بالمرق بالشاي. بدأت الأكل ولكن لا أخفي عليكم أنني استكثرت الأكل وقيمته عليّ فلم أكله، كنت ساعةً أفكر بقيمته وحيناً شعرت أن بطني بدأت تنتفخ من رائحة الطبق أو من التخمة .لم ينتهي الموقف هنا بل أني شعرت أني مهرج على الطاولة أو مثلاً مستر بن أو عادل أمام،بدوي تبهره أنوار المدينة وتزعجه صخبها وشكلياتها، قروي زار المدينة،راى فيها من الجميلات الحسناوات مارأى ،دعونا من الحوريات فذكرهن يسلب الفؤاذ قريرته. وبعيد وصولي مع رفاقي شعرت أنني بين خلق من طينة لا أعهدها،ملحها الترف والفرح. دخلت تثاقلني مشيتي بين الحضور، وتعيقني خطواتي بين الحاضرين، خلعت الحذاء وتسمرت وسط الحاضرين كقنينة ماء، وضعت آلة الكمان جواري حتى خنقت الممر، وبرهةٍ من قعودي إذ إني أحس أني مثل حبة ذرة بين فصوص الرمان،بكل أسئ كنت قد غسلت وجهي الصباح ولم أكلف نفسي بعدها عناء غسله مرة أخرى أما قدماي فقد جرفت بعرقها سحابة من الأتربة فتعّجن طيناً ،ومن شدة الحرج شبهت نفسي بأني نعجة بين الحمير،وبحركة واحدة، أقول واحدة كنت سأنهي هذه الفوضى العارمة، كيس بلاستيكي تملؤه وريقات القات وعيدانها،أن أمضغ القات يعني أن أنهي الغربة وأستحضر الإنتماء. أكملنا المقيل بعد عناء طويل من الإنتظار المر حتى كادت مثانتي أن تنفجر غيضاً، هرعت للحمام الذي من شدة أنواره تهيى لي أن هناك من يرقبني فيه، في الحقيقة لم أستطع التبول، كان كل شيء يلمع بريقه ورائحة المكان زهية على غير العادة فمتنعت مثانتي امتناعاً رهيباً ،لكني عذرتها على أي حال.بعد يأسي من التبول قمت لأفتح الباب ولكن لسؤ الظن لم أستطع، كان المقبض غريباً كخلاف العادة أيضاً،أقفلت عيناي وحاولت برهة أتذكر حمامنا بالبيت عله يلهمني الفرار وأخرج. فتحت عيناي وطرقت بشدة وحاولت مراراً حتى انفتح ومازالت مثانتي مثقلة بهمومها.ليس ذنبي، فهذه الأماكن لا تروقني وهذه الوجوه لا تروقني أيضاً، نحن شيء وهذه الحياة شيء، يالها من غربة، فهل هو الانبهار الأول !أظن أن الشكليات الخارجية دائماً خادعةً،الحمام حمام أكان مقبضة من حديد أو من فضة او كمقبض حمام الجدة رقية. وكذلك الناس هم الناس مهما اختلفت تطلعاتهم وانتماءتهم وبلدانهم يبقى الشكل إلى زوال واضمحلال.ومما ابهرني أيضاً هو الشوكة اللعينة التي رفضت التقاط الأكل.عند المغادرة أدركت أني كنت أتنفس هواءً ثقيلاً وأني كنت سنفوراً أو قزماً من الاقزام، في الحقيقة الإنسان ابن بيأته. في الأخير نصيحة مجانية اقرأوا في فن الإتيكيت حتى لا تحتاروا في اختيار مكاناً مناسباً للقعود، وبدلاً من اختيار مكاناً في الممر تخطوكم المارة، كذلك أيضاً اجمعوا معلومات أو اعلانات تتحدث عن أنواع المساحيق والكريمات حتى لا ترتبكوا إن قدم لكم كريماً للشعر فتستخدموه للبشرة أو أن تستخدموا كريم الباعوض للإستحمام وما إلى ذلك .نسيت أن أخبركم لا ترافقو من تحبون في الأماكن الخاصة حتى لا تهيمون فيه ،حينها يلحظكم الحاضرون متلبسين في الهيام، احملوه فقط في ذاكرتكم فهي أوفى كما أعتقد من الأيادي، بالأحرى اتركوه بعيداً حتى إن وجدتم نسمة أو ملاك طاهر أو حورية مطهرة لا تأخذوا حذراً لتنطلقوا عندها في التسبيح لجمال وابداع الطبيعة وقوانينها، فالتقصير في التسبيح للجمال والحسناوات أمر يوصف المرء بالبله وخيبة الأمل ،ولكل يوم حسناؤه وحوريته وحسناء هذا اليوم لم تكن حسناء عادية بل حسناء من الطراز الرفيع اقتفى أثرها بدوي قرأ كتاباً عن فن الإتيكيت ولم يستطع تقديمه أمامها، إنها أشواق…