- حسن عبدالوارث
كان اليمنيون – ولازالوا ، وسيظلون – يأتون الى الدنيا فقراء ، ثم يثورون
على أسباب فقرهم . وحين يستلمون السلطة ، يكتشفون أنهم لازالوا فقراء .
ولكن هذه المرة لم يكن فقر المادة ، انما فقر الروح . فاذا بهم ينقلبون من
فقراء الى حقراء ، بعد أن يصيروا عبيداً للسلطة !
ثاروا على الاحتلال
الأجنبي ، وعلى الحكم الاِمامي . ووجدوا قصور العنجريز والسلاطين و” سيوف
الاسلام ” في متناول أيديهم – ومعها خزائن وسياط – فاذا بالبريق يسطع في
عيونهم ، فتغشى عن كل الحقائق . وحينها فقط تندلع الحرائق . يغدو الصراع
على السلطة هو الاستراتيجيا .. وماعداه مجرد تكتيك وتباتيك !
ان قراءة
أمينة – ولو سريعة – للتاريخ السياسي اليمني الحديث والمعاصر ستُفضي بنا
الى ادراك حقيقة مؤلمة من دون أدنى شك : ان الكفاح ضد الأجنبي والكهنوت لم
ينل غير قدر ضئيل من متن هذا التاريخ – يكاد اليوم ينسحب الى الهامش – فيما يتغطَّى معظم هذا المتن برماد الحروب والكروب الناتجة عن فكرة الاستحواذ
والاقصاء : الاستحواذ المطلق على السلطة ، والاقصاء الغشوم لكل الخصوم ..
وهي الفكرة الجرثومية الفتاكة التي راح ضحيتها أضعاف أضعاف شهداء وقتلى
النضال ضد عثمان وهينز ويحيى وأحمد !
…
في صنعاء …
أستولى مناضلون – بل رموز ثوريون – على ثروات خاصة بالأُسرة الاِمامية
المندحرة : أموال وجنابي ومصوغات ذهبية ، عدا البيوت والأراضي والمزارع
والبهائم والعبيد ، وغيرها من الممتلكات . وقد أنتقل بعضهم من الفقر
المُدقع الى الغنى الفاحش في زمن قياسي ، بلهُ في سويعات معدودات ، كما
الحال في غير مثال !
ومن لم ينل حصَّته من متروكات الأئمة ، نالها من
خزائن الدولة الناشئة اثر الثورة ، أو نالها لاحقاً من ميزانية ” اللجنة
الخاصة ” أيَّاها .. حتى غدا من المؤلم أن ترى أحد مناضلي سبتمبر الأقحاح
وهو مُعدَم ، فتقول في نفسك راثياً : ليته نال منها بعض وطر !
وبرغم
ذلك ، ظلت أغلبية القيادة الثورية – على عِلاَّتها الأخرى – محتفظة بقدر
وافر من عِفَّة اليد وطهارة الضمير ، في عهدَيْ السلال والارياني ، ثم
بصورة أنصع في عهد الحمدي . ولم يزدهر الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي وتتقيَّح القيادة وتسقط الفكرة الثورية ، الاَّ لاحقاً في عهد صالح ،
كمُفارقة فادحة السخرية بين الاِسم والمُسمَّى !
وفي عدن …
ظل
النقاء الثوري والشقاء الطبقي عنواناً لافتاً لمنظومة القيادة التي حكمت
البلاد والعباد بالنار والحديد ، وبالجيوب النظيفة والذمم الشريفة . وقد
رحل قحطان وعبداللطيف وسالمين وعبدالفتاح وليس في أرصدتهم غير كتب حركة
القوميين العرب أو مجلدات الثلاثة البررة والرابع القابع تحت الشجرة .
ولم نسمع عن قصص الشغل من تحت الطاولات أيَّاها الاَّ في الحقبة الثمانينية من القرن المنصرم . وللأمانة ، لم تكن تلك القصص لصيقة بجماعة دون أخرى ،
فمثلما طالت المقاولات المشبوهة محمد علي وآخرين ، فقد أصابت صفقات السلاح
النتنة صالح مصلح وآخرين . ولأول مرة ، تتردَّد الأنباء سيئة السمعة عن
بيوت بعض القيادات وهي المنطقة التي ظلت سابقاً بعيدة تماماً عن الشبهات !
وأستمر الحال وتدهور الى أسوأ مآل حتى جاء الجمَّال يوم 22 مايو 1990 فأخذ الجمل بما حمل وعلَّم الفاسد الاشتراكي الغشيم ما لم يعلم من فنون الفساد
من طراز متجدِّد !
…
لم تندلع حرب صيف 1994 الاَّ وقد نمت طبقة سياسية فاسدة في قيادة الحزب الاشتراكي ..
واثر اخماد نيران هذه الحرب ، وذات مساء شتائي قارس ، كان عدد محدود من
القيادة الجديدة في هذا الحزب يناقشون – في جلسة مقيل محدودة النطاق –
المصير الغامض للأموال التي كانت في حوزة القيادة السابقة للحزب والتي
أختفت مع هروب تلك القيادة الى الخارج عشية سقوط عدن في 7 / 7 تحت سنابك
كوكتيل مسلح وحاقد .
كنتُ موجوداً حينها – في الزمان والمكان والحدث –
أستمع الى ما يدور من غريب الحديث ، وأنا غارق في بحر الدهشة ، غير مُصدِّق بأن أميننا العام المناضل العريق والصمصوم العتيد – ومعه نفر من قادتنا
الأشاوس – قد أستولوا على ملايين الدولارات في غمضة عين !
وكنتُ
أتخيَّل تلك الكُتيِّبات التي تحتوي برنامج الحزب والنظام الداخلي وحلقات
التثقيف الحزبي وهي تتراقص قُبالتي كأنَّها رُزَم من البنكنوت الأخضر
اللمَّاع ! … لم أكن لأُصدِّق قط … ولكن الحقيقة كانت ساطعة في حدقات
العيون وفي الوثائق والمستندات التي أمامي !
رحمة الله تغشاك أيها الرفيق الفذ علي صالح عُباد … ما أشرفك وأنظفك .
…
سيقول قائل : والحوثة ؟ .. لماذا لم تُشِر اليهم ؟ .. هل هم استثناء مما تقول ؟
وأردُّ عليه : أولاً ، انني أتحدث عن أهل الثورة .. أو – بالأصح – من
كانوا أهل الثورة ! .. وثانياً ، لازال هؤلاء في غيِّهم يعمهون ، فانتظروا
سيرة الاكتمال .. فانْ شئتَ فافهم ، وانْ لم تشأ فسلاماً .