- بقلم: محمد علي اللوزي
الكتابة أنثى معطّرة؛ تشرحنا، وتمنحنا حرية التصرف في حدودها. تمضي بنا إلى الهمّ، ونكتشف ذواتنا من خلاله. تقيمنا في الفكرة رسمًا، فنختلف ونتفق عليها.
الكتابة اشتغال الحواس في العالم، والعالم في الحواس. انصرافٌ لما نصبو إليه، ومحاولة إقناع، ورغبة في التبختر حين تتشكل جمالًا. إنها صندوق سحري يمنح، ويخفي، ويبرق، ويكون هنا وهناك في اللحظة نفسها.
الكتابة تجدد حياة؛ رقص بالكلمات. كلمات تحددنا، وأخرى تجذبنا إلى التشاكل والتحفظ والغموض. إنها هندسة عقل وروح، تناغم بين الذات والعالم، تجعلنا أسوياء حينًا، ومغامرين نفضّ تخوم المعنى حينًا آخر، نولج العقل في النقل، والمعنى في اللامعنى.
فنّ ينسجم معنا حدّ الدهشة، ويفلت من بين أيدينا. نغامر، نقامر، ننجز ولا ننجز… كأنها رقم صعب: ممانع وطيع. تقول الكتابة: “أشرحك”. وأقول أنا: “أصيغك”. ثنائية متعادلة، وغرورٌ ضروريّ لجمالها.
كل حرف بلا غرور حرف ناقص، باهت، بارد، سائب، رخو، وربما بلا معنى. فغرور الكتابة جسدها الجميل، تشكّلها، وضخّ المعنى فيها لتروي الروح البوار.
الكتابة إسراف في الحرف ليلازم معناه؛ مسربٌ لما نريد، مستهلكٌ قضايا، محدّد فروض. ومهنتها الوحيدة أن تغدو رائعة لمن يفقهون قولها. تأتي نزقًا وطمأنينة، وتغدو بارة بصاحبها حين يحسن ترويض الحرف.
كأنها مهرة جامحة، كون مبعثر، شتات يحتاج إلى رؤيا، معنى، إحساس، نبض يتعالى. كتابة لا تكتبنا هي محض افتراء: سراب، قبض ريح، وحرث بحر. فليس ثمة كتابة بلا “أنت”؛ بلا مالكها وسيدها وطوعها.
الكتابة فنّ القراءة واستقاء المعنى والاشتغال على الآخر. منها تنبثق نصوص وقراءات، يتشظّى عالم، ويلتئم آخر. كتابة سائبة، منفلتة، مراوغة، تعرف كيف تنسكب حبًا حين نأتي عليها؛ نعاقرها ونشرب نخبها.
كأن الكتابة سيدة الموقف، الشاهد، الحال، التاريخ، المستقبل، نحن… وهم… والعالم مفردًا ومتشابكًا.
الكتابة رقص على الكلمات. حتى الجسد كتابة، والوردة معنى وكتابة. العالم كله كتابة حين نحسن قولبته، ونداريه، ونُجنّ فيه، ونحرقه، ونتعاطف معه، ونبنيه. فالكتابة شاهدة علينا.
إنها سخاء القدرة على الفهم، فتح آفاق الإنسانية، دحرجة المعنى لنراه بين أصابعنا. الكتابة إبهار، اجتياح لمناطق الذاكرة، تحفيز للمحفَّز كي ينهض بالرؤيا ويستحضر الجمال.
الكتابة فرح يسبقنا إلينا، وأنتم هذا الامتداد الحيوي، بتكوّراته كالليل والنهار، إلى فضاء الدهشة التي نريدها بلا تردد. نص لا يستقر إلا ليبدأ.
الكتابة توقيتٌ لأشراط الساعة: متى تقوم القصيدة من مكمنها وتزهر الأصابع أحرفًا؟ هي كتابة تنتمون إليها بجدارة، وتهزون الحرف ليساقط وهجًا وجمالًا.
دام غرور الكتابة لديكم، لتكون منقادة، طيّعة، سهلة بما تكتنزونه من قدرات أصلّي لها.





