- كتب: فتحي أبو النصر
في تاريخ الأدب اليمني الحديث، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تجمع بين الشعر والنضال الثقافي والعمل السياسي بكفاءة وإبداع. من بين هؤلاء يقف الدكتور سلطان الصريمي، شامخا كرمز استثنائي عاش حياته كطريق بين الماضي والحاضر، وبين الأرض والإنسان، وبين الثورة والحلم.
ولد الصريمي في قرية صغيرة بمحافظة تعز، في زمن كانت فيه اليمن تعاني من ويلات التشرذم والظلم. لكنه، منذ نعومة أظافره، امتلك إحساسا مختلفا بالأشياء، إحساسا قاده إلى الشعر كوسيلة للتعبير عن معاناة الإنسان وأحلامه. وبين قصائده التي كانت تضج بالحنين والألم والأمل، وبين نضاله السياسي والثقافي، عاش الصريمي حياته بين الكلمة والموقف.
لقد أدرك الصريمي مبكرا أن الشعر وسيلة قادرة على اختراق القلوب قبل العقول. وهكذا، جاء شعره مغلفا بالصدق والبساطة، قريبا من وجدان الناس.بينما كان لصوته الشعري بصمته الخاصة التي أعادت تعريف الشعر الغنائي في اليمن.
قصيدته الشهيرة “نشوان”، التي غناها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، تجسدت كتحفة فنية تزاوجت فيها الكلمة العميقة مع اللحن المتدفق. وفي “يا هاجسي”، التي لحنها وغناها عبدالباسط عبسي، يتجلى الصريمي وهو يعيد رسم هموم الإنسان اليمني، متحدثا عن الصبر، والمقاومة، والكرامة في وجه الظلم. لم يكن شعره مجرد كلمات تغنى، بل كان صرخة إنسانية خالدة.
من مجموعته الشعرية “هموم إيقاعية”، التي تعد واحدة من أبرز إنجازاته، إلى قصيدته “أبجدية البحر والثورة” التي أدتها فرقة الطريق العراقية في عدن، شكل الصريمي علامة فارقة في كتابة الشعر العامي. لم تكن كلماته مجرد نصوص غنائية، بل تجارب حياتية متكاملة، متدفقة من عمق الإحساس ومن شرايين الحياة اليومية.
على أن الشعر لم يكن وحده ميدان الصريمي. في التسعينيات، حمل لواء الأدباء والكتاب اليمنيين حين تولى منصب الأمين العام لاتحادهم. ورغم المصاعب الهائلة، استطاع أن يحافظ على استقلالية هذه المؤسسة وسط عواصف السياسة الهوجاء.
كان الصريمي شخصية نقابية تجمع بين الصلابة والبساطة.وفي زمن الوحدة اليمنية الوليدة، حين كانت البلاد تعيش لحظة مفصلية، وجد نفسه في مواجهة تحديات كبيرة. فاختار التضحية بموقعه القيادي حفاظا على تماسك الاتحاد، مؤكدا أن قيمة المؤسسات الثقافية تكمن في استقلالها عن تأثيرات السياسة.
لذلك في أول انتخابات برلمانية بعد الوحدة عام 1993، اختار الصريمي أن يكون صوتا للشعب في قبة البرلمان. ممثلا عن مديرية الشمايتين، استطاع أن ينقل هموم أبناء منطقته والوطن بأسره. ورغم انسحاب حزبه، الحزب الاشتراكي اليمني، من انتخابات 1997، بقي الصريمي أيقونة للصوت الحر الذي لا يساوم على المبادئ.
وبعيدا عن المناصب والقصائد، كان الصريمي إنسانا بسيطا، يمتلك روحا مرحة وسخرية لاذعة يستخدمها لمواجهة قسوة الحياة. كانت السخرية بالنسبة له سلاحا يواجه به البؤس السياسي والاجتماعي، ويمنح بها أصدقاءه وأحباءه أملا جديدا كلما تسرب اليأس إلى القلوب.
في الحقيقة ترك الصريمي إرثا شعريا وإنسانيا يخلد ذكراه. قصائده التي تغنى بها الفنانون في الشمال والجنوب، لم تكن مجرد أغنيات، بل وثائق حب وثورة وألم وأمل.
اتذكر مع تباشير عام 1997، كان اللقاء الذي لا يُنسى. كنت شابا متعطشا لاكتشاف رموز الثقافة اليمنية، حين أتيحت لي الفرصة للتعرف على سلطان الصريمي. كان يترأس وفدا من قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لترتيب وضع فرع الاتحاد في الحديدة، ورافقه في هذه المهمة العزيز علي المقري. كان حضوره مميزا وهادئا، لكنه في الوقت ذاته مشحون بالطاقة، كأنك تشعر بثقل الكلمات التي يحملها وعمق المعاني التي يعيشها.
رجلٌ بوجه يحمل آثار التجارب وبعيون تخفي وراءها حكايات النضال والحب للوطن. خلال تلك المهمة التنظيمية، لم يكن مجرد قائد يسعى لإعادة ترتيب الأوراق، بل كان شاعرا يسعى لتقريب القلوب، لإنعاش الروح الثقافية التي كانت تتعطش للحياة. جلسنا في حلقات النقاش، وكان حديثه مزيجا من الشعر والحكمة، كأنك تستمع إلى قصيدة حية.
وحين ينظر المرء إلى إرث سلطان الصريمي، سيرى شاعرا يتجاوز حدود الكلمة ليصبح صانع معنى، ورجلا تتقاطع في شخصيته أبعاد الشاعر الثائر والمثقف المتواضع. كما في قصائده، ستجد نفسك تتنقل بين الحنين الجارف للوطن، والصوت الصاخب الذي يدعو إلى الحرية والكرامة. كل كلمة كتبها لم تكن مجرد تعبير أدبي، بل كانت أفقا بينه وبين الشعب، أفقا مشبعا بالألم والأمل معا.
وما يميز الصريمي عن غيره هو صموده في وجه التحولات. فحين هبت رياح الوحدة اليمنية، كان من القلائل الذين أدركوا أن الأدب يجب أن يكون أداة للمصالحة الوطنية، فجمع بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، عبر قصائده ومواقفه التي جسدت الوحدة في أبهى صورها. لم يكن ذلك شعورا مجردا، بل كان فعلا عاشه من خلال ألحانه الشعرية التي انصهرت في أصوات عبد الباسط عبسي ومحمد مرشد ناجي وأيوب طارش، ليصبح الشعر جزءا من الذاكرة الوطنية.
إن الصريمي لم يكن شاعرا منعزلا في برج عاجي، بل رجل ميدان يتواصل مع الناس ويشعر بهم. حين التقيناه في الحديدة، لم نكن فقط نناقش قضايا اتحاد الأدباء، بل كنا نتحدث عن اليمن ككل، كحلم كبير يريد تحقيقه. قال لنا ذات مرة: “الشعر هو صوت اليمن، والأدب هو ذاكرته. إذا فقدنا الكلمة، فقدنا كل شيء.” هذه العبارة كانت تختزل كل شيء عن رؤيته ومسيرته.
إن سلطان الصريمي ليس مجرد اسم في تاريخ الأدب اليمني، بل هو نبض حي، يحمل بين ضلوعه ذاكرة وطن وأحلام أمة، ويرسم بكلماته ملامح مستقبل أفضل.
وحتى في المنافي الاختيارية، كان يحمل اليمن معه كحلم وكهوية. وفي القاهرة، حيث عمل مستشارا إعلاميا، ظل حضوره ملموسا في كل لقاء أدبي أو ثقافي، وكأنه يعلن بصوته أن الغربة لن تسلبه انتماءه.
اليوم، ونحن نستذكر سلطان الصريمي، نجد أنفسنا أمام شاعر صنع التاريخ بالكلمات، وأديب أعاد تشكيل وجدان اليمنيين، وسياسي حمل هموم الناس في قلبه، ونقابي حافظ على استقلال الكلمة والمؤسسة.
سلاما عليك أيها الشاعر الكبير، يا من كتبت للوطن وللإنسان، وحملت الحلم حتى آخر نبض في قلبك. لقد كنت وستظل قيمة لا تنسى في ذاكرة اليمن، وشاهدا على أن الكلمة الصادقة يمكن أن تكون أقوى من السيف وأبقى من الدهر.